الأفكار البديهية الصحيحة والأخرى الغامضة والثالثة القابلة للتوظيف في مجالات شتى. ومنظومة بهذه الصورة ليس من الصواب رفضها مطلقًا أو قبولها مطلقًا، وإنما المطلوب تحليلها والاستفادة من جوانبها المفيدة إن احتيج لها وتصحيح الخاطئ منها والتوقف مع الغامض فيها.
وهناك صورة أخرى داخل إطار العلم المعاصر في التفاعل مع النسبية نجده في علم الاجتماع الزاحف بقوة إلى ميدان العلم المعاصر، حيث وجد في النسبية مجالًا خصبًا ينعش النظريات الاجتماعية -الذي كان مرتبطًا في مرحلة سابقة بالدارونية والماركسية والوضعية- حيث حول مجموعة من علماء الاجتماع مسارهم نحو النسبية. ومن أهم مجالات تأثرهم بالنسبية ما نجده من نظريات حول ثقافة عصرٍ ما؛ إذ يرى أحد علماء الاجتماع المعاصرين "سوروكن" بأن نظرية النسبية أحدثت تغييرًا جذريًا في "العقلية الثقافية للعصر"، فمن وجهة نظره أن لكل عصر عقليته الثقافية الخاصة المعبرة عن روحه. ففي العصور الوسطى سادت الثقافة الروحية والمثالية، حيث كانت القيم الروحية هي الأهم من المادية، والدنيا إنما هي معبر للآخرة. وفي القرن السابع عشر (١١ هـ) وما بعده احتلت ثقافة جديدة عقول الناس، وهي الثقافة الحسية، فلم تعد الطبيعة موضوعًا للتأمل في بديع صنع الله. ولم يعد العلم نوعًا من التقرب إلى الله. بل أصبحت المادة هي الحقيقة الأساسية، والإدراك الحسي هو المعرفة اليقينية بالطبيعة (١).
وبحسب ما أرى فإن هذا الموقف لا يختلف كثيرًا عن بقية مدارس علم الاجتماع إلا أنه أخف تطرفًا في نقطة واحدة هي: أن الحقائق في كل عصر حقائق نسبية بخلاف التيارات الوضعية في علم الاجتماع فهي ترى بأن عصر العلم هو عصر الحقائق الصلبة الصحيحة بخلاف ما قبله فهو عصر الأوهام. وقد امتدت هذه النظرية النسبية للحقائق إلى مجالات واسعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأغلب العلمانيين يوظفون ذلك في حربهم مع الدين جاعلين من الدين وأصوله وفروعه قضايا نسبية، وليست حقائق مطلقة. وقد امتد ذلك إلى مجموعة من العرب عند دراستهم للإسلام وبحثهم فيه، فيتكلمون على الحقائق النسبية، ويفرقون بين الحق المطلق والحق النسبي، وكذا في الصدق والعدل