وقل مثل ذلك في مفهوم آخر وهو آلية الكون وميكانيكيته التي ترسّخت مع فيزياء نيوتن، وذهب بها "لابلاس" إلى أبعد حدودها: فالعالم يتحرك كالآلة، وأما افتراض وجود رعاية إلهية لهذه الآلة ففرضٌ لا حاجة للعلم إليه، تعالى الله عن ذلك. ولكن مع النسبية وصاحبتها الكوانتية ظهرت مستجدات تعكر صفو التصور الآلي -الميكانيكي، حيث تُظهر ضعف تلك الآلة، ومن ثم إزالة الوهم المتعلق بوضع آلة نيوتن موضع الحقائق المطلقة، مما فتح الباب لنقاشٍ طويل حول مذاهب فلسفية: منها من ينتصر للحتمية كما هو الغالب في المادية ومنها من ينتصر للحرية واللاحتمية كأغلب المثاليين، وهي مسألة شبيهة باختلاف بعض أتباع أهل الدين في موضوع القدر ما بين قدرية وجبرية، ففي الفلسفة المعاصرة وتيارات العلم نجدها بمصطلحات أخرى أشهرها الحتمية واللاحتمية (١).
٣ - الموقف الديني:
فإن الكنيسة وإن أُقصيت بعد نجاح الثورة العلمانية، إلا أنها مع نهايات القرن التاسع عشر (١٣ هـ) بدأت تنتعش في دائرتها، وتستقطب أتباعًا عطشى من هنا وهناك، وسمحت الدول الاستعمارية في حملاتها لحركة تنصيرية داخل البلاد المحتلة. وبدأت كنائس جديدة تتفاعل مع الأفكار الجديدة العلمية أو الفلسفية، فتحاور وتناقش وتعترض أو تستثمر إلى غير ذلك. إلا أنها تبقى مؤسسة ضعيفة مقارنة بالمؤسسات العلمانية، وهكذا كان حالها أول القرن العشرين (١٤ هـ).
لعل من المناسب هنا أن نتعرف على علاقة صاحب النظرية النسبية بالدين ورأيه في علاقة نظريته بالدين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكنيسة وأهلها: أما هو فأصله من اليهود، ولكنه عاش في أسرة غير مبالية بالدين إن لم تر طقوسه وعقائده من خرافات القرون الوسطى، وولاؤه ليهوديته قد لا يتعارض مع عدم تدينه، وأجوبته في المسائل الدينية أجوبة غامضة -بخلاف ما نراه من احترام للدين عند أغلب رواد الثورة العلمية بمن فيهم نيوتن في السابق، أو ما نراه من صراحة تامة في الإلحاد، كما في القرن (١٣ هـ - ١٩ م) - وكأن قضية النسبية
(١) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص ٢٦٨، ٢٨٤ مع أن هذه القضية بالذات أوضح في نظرية الكوانتم القادمة، وانظر: الفصل الثالث من كتاب محمود زيدان (من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية) ص ١٠١.