للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأولي: عواصف تواجه الفكر المادي وتياراته:

لقد رأينا ابتهاج الماديين بشتى تياراتهم في القرن التاسع عشر (١٣ هـ)، بانتصارهم على الدينيين والمثاليين، يزعمون أن العلم -سواء في فيزياء نيوتن ومن بعده لابلاس أو مع داروين وغيره- يؤكد صحة مذهبهم؛ لأنهم لا يرون مذهبهم بناءً فكريًا وفلسفيًا فقط، بل يزعمون أن العلم يدعم رؤيتهم أيضًا.

وتقوم رؤية الاتجاه المادي على أن الحقيقة هي في المادة فقط، وأنها أصل الوجود وحقيقة العالم، وما سوى ذلك مما يعتقده أهل الأديان من عالم الغيب أو ما يراه أهل المذاهب المثالية من وجود ماهيات عقلية ومُثل، فكل ذلك مما لا حقيقة له.

وإذا كان من السهل عليهم مجابهة النظرية النسبية لكونها صياغة علمية بروح فلسفية، فالزمان النسبي أو المكان النسبي وانحناء الكون وغيرها من مفاهيم النظرية النسبية ليست مما يمكن وضعه بسهولة تحت محك التجربة، ولكن صعُب عليهم التعامل مع نظرية الكم لأنها ضمن دائرة العلم الفيزيائي الضيق، وهو العلم نفسه الذي تزعم المادية أنها بنت أدلتها عليه.

وقد رأى الماديون والوضعيون بأن العلم والمادة هما الدين البديل عن دين القرون الوسطى، ولكن نظرية الكم وعالم الإلكترون قد هشم هذا الدين المادي البديل (١)، يقول أحد الكتاب الغربيين: "عشنا طوال القرن التاسع عشر، وجزءًا من القرن العشرين في جو مذهب مادي واثق من نفسه. . . . كان عالمًا ميكانستيًا، وكنا نجلس فوق قمته. كنا نمسك بالقوى الظاهرية للمادة، وكانت المادة هي إلهنا. كان العالم الطبيعي يتحدى الوحي الروحي للإنجيل بنظرياته في الإلحاد والعقلانية. ويمكن للمرء أن يقول: إن هذه الحقبة للمذهب المادي قد امتدت حتى يوم انفجار القنبلة الذرية فوق هيروشيما. . . . وأظن أنه يصح لي أن أقول: إن المادة قد انتحرت الآن -وأنه قد تكشف لنا أن المادة لم تعد قادرة على أن تحمي أو تنفع أي إنسان في أي مكان ما لم توجه الأفكار التي تسندها نحو مفاهيم جديدة للاتكال المتبادل" (٢).


(١) انظر: فلسفة العلم، فرانك ص ٢٨٨.
(٢) فلسفة العلم ص ٢٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>