للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعيدًا عن تقويم هذه المواقف فإن المتابع لهذه الأحداث يجد نقلة كبيرة في الفكر العلمي والفلسفي المعاصر، وهي نقلة ليست سهلة، فبينما ساد اعتقاد راسخ في القرن التاسع عشر (١٣ هـ) عند العلماء والمفكرين بأن "الحديث عن وجود حقائق لا مادية، مثل وجود الله أو النفس يعتبر تفكيرًا غيبيًا غير علمي" لدرجة أن أحد أعلام تلك المرحلة -لابلاس- يقول لنابليون "حينما سأله عن الدور الذي يقوم به الله في تدبير الكون، فقال: إنني لست بحاجة إلى هذا الفرض يا سيدي" (١)، وإذا بنظرية الكوانتم تؤكد بأن المادة المحسوسة تكاد تكون وهمًا بصورتها في المذاهب المادية. وأن الحقيقة ما هي إلا جسيمات غير مرئية على الإطلاق، وإنما نستدل على وجودها من آثارها، وإذا كان الإلكترون غير قابل للمشاهدة وإنما نستدل على وجوده بآثاره، فلم لا يكون الإقرار بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وإثبات النفس والوعي والقيم مما يمكن ربطها على نحو جديد بتصور عصرنا العلمي (٢)؟!

ومن المؤكد بأن للمسلم نظرة خاصة حول هذه الأحداث عندما يقيّمها من خارجها, لاسيّما في مسألة كهذه تدور حول الإلحاد والإيمان, أو بين المادية والغيب، ومن معالم هذه النظرة: بأنه وإن رأى انتصار المثاليين على الماديين، فالمادة لم تعد هي المادة، وإنما هي كائن غير مادي، وإن رأى انتصار المؤمنين على الملحدين -بحسب اصطلاحاتهم- باستدلالهم بأنه كما أن هناك موجودات مادية غير مرئية أو إنما تعرف بآثارها، فمن باب أولى وجود الله سبحانه، وكذا الأخلاق والوعي والعقل والنفس والحرية، وهي عناصر بناء اللاهوت في الغرب والفلسفات العقلية والمثالية، إنه -وإن رأى كل ذلك- فهو يعرف النقص الكبير الذي فيها؛ ذلك أنها -وإن نجحت في إلجام الماديين والملحدين فهي- غير كافية لقيادة الناس نحو الدين الحق والاعتقاد السليم، وإنما ذلك مرتبط بطرف آخر لم يمارس دوره الحقيقي في جوّ هذه المعركة وهم المسلمون، فإنه لو صاحب مثل هذه النكسات للتيارات المادية والإلحادية أمة تُبيّن للناس الدين الحق، وترشدهم إلى الاعتقاد السليم لربما رأينا من يتحول عن مذاهب مثالية


(١) انظر: هامش رقم (٢) عند بدوي، فلسفة العلوم ص ٢٣٢، وانظر: الفيزياء والفلسفة، جينز ص ١٥١.
(٢) انظر: المرجع السابق، بدوي ص ٢٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>