للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفيزيائية قد فسرت حركة الكون، وأنه يسير بشكل دقيق لوحده، ويكفي -بحسب رأي لابلاس- أن نعرف نقطة من نقاط مسار أي حدث لنعرف بقية نقاطه (١). ثم عُمّم ذلك إلى بقية المجالات بما فيها الإنسان ذاته ومشاعره وأفكاره والمجتمعات وحركة التاريخ والحضارات وهكذا.

وقد كان الاتجاه المادي أشهر الاتجاهات ادعاءً للعلمية، ومما برّروه علميًا موقفهم من مشكلة حرية الإرادة، فهذا كان أصل العالم كله يرجع إلى مادة وحركة، وقد كشف نيوتن قوانين حركتها، فإن ذلك بحسب رأي الماديين يشمل الإنسان؛ ففسروا "الفكر على أنه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد" (٢)، وكان ميلهم تبعًا لذلك إلى مذهب الحتمية الجبرية. وبما أن التفسير المادي للإنسان يخضع لميكانيكا مادية مستوحاة من الفيزياء؛ فإن مثل هذا التفسير لابد أن يتأثر عند التغير في دلالات المصدر. وقد رأينا أثر نظرية الكم في زعزعة المذهب المادي جملة، ونرى هنا أثرها في زعزعة قضية مهمة من قضايا الاتجاه المادي هي الحتمية.

وقد كان سبب هذه الأحداث والتغيرات هو بعض ما كشف عن عالم الإلكترون، فكما أنه قد أصاب الاتجاه المادي عمومًا في مقتل؛ فإنه هنا أيضًا أصاب قضية الحتمية المادية بإصابات مماثلة، ويظهر أن هذا الكائن الصغير الذي لم يره أحد قد كان نقمة شديدة على الاتجاه المادي.

يتعلق الأمر هنا بالمبدأ المشهور في نظرية الكم الذي اكتشفه الفيزيائي "هيزنبرج" عام (١٩٢٧ م)، وهو مبدأ اللايقين، وخلاصته: أنه بعد نجاح "طومسون" في تفتيت الذرة واكتشافه الإلكترون داخلها، واكتشاف "راذرفورد" النواة، وتصورهم بأن الإلكترون يدور حولها، جاء بعدهما "نيل بور" بافتراضٍ حول حركته: فالإلكترون لا يبقى في مدار محدد حول النواة، وإنما يقفز من مدار إلى آخر، يشبه في ذلك قفزات حيوان الكنغرو في حقل، جاء بعدهم "دي


(١) انظر: الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص ١٤٩ - ١٥٠، وانظر: العلم والاغتراب والحرية. مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي، الفصل الثالث: ضروب الحتمية العلمية. وانظر: فلسفة العلم، فيليب فرانك ص ٣٠٥.
(٢) الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز ص ٢٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>