للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السيادة للتيارات غير الدينية وإقصاء الدين عن مجالات الحياة، هذا من جهة النظام الفكري، أما من جهة النظام المادي: فإن الثورة العلمية نتج عنها ثورة صناعية ضخمة داخل أوروبا، وهي في حاجة إلى مواد خام وإلى أسواق. فأصبح الاستعمار طريقًا للتبشير بالنظام الفكري الجديد وإبعاد أي قوة يُخشى منها على هذا النظام من جهة، ومن جهة أخرى أصبح آلة لفتح أسواق جديدة أو للاستيلاء على ثروات الشعوب الأخرى ولاسيما العالم الإِسلامي.

ومع أن الجيوش الاستعمارية كانت جيوشًا علمانية غالبًا، إلا أن المخيال الاجتماعي الأوروبي بذكريات الحروب الصليبية ورفع الصليب وتحطيم الهلال ما زالت تعشش في أدمغة هذه الجيوش، فهناك رواسب دينية عميقة تحرك هذه الجيوش الاستعمارية العلمانية، ويكفي أن ننظر إلى سياسة السماح، بل الدعم للمنصرين بالحركة داخل البلاد الإِسلامية رغم المضايقة التي تواجه الكنائس داخل كثير من بلدان أوروبا، والأخطر من ذلك أن تولى هؤلاء المنصرون إدارة التعليم الحديث داخل البلاد الإِسلامية، فكيف سيكون أثر هذا التنوع داخل الجيش الاستعماري ما بين تيارات فكرية تسعى لنشر أفكارها والتبشير بها وما بين رأسماليين يبحثون عن المكاسب وإنعاش تجارتهم وشركاتهم ومصانعهم، وما بين منصرين يجوبون العالم الإِسلامي: يفتحون المدارس والمستشفيات كغطاء لعملهم التنصيري؟ وكيف سيكون أثر كل ذلك على الحياة العلمية داخل العالم الإسلامي؟

لا يشترط أن نحدد الإجابات عن كل التساؤلات السابقة، إذ المهم فيها كشف حقيقة الاستعمار في الجانب العلمي، ولاسيما أن بعض الأسئلة قد تدلّ العاقل إلى الأجوبة، ولكن لابد من النظر إلى ما له علاقة بإفساد مسيرة العلوم الحديثة داخل العالم الإِسلامي.

كان الفكر الاستعماري يعي طبيعة التحديات التي ستواجهه، وكان يعلم أن هناك مقاومة ستولد ضدّه وأن خلفها ما يغذيها ويمدّها بعناصر القوة، وأهم ذلك الدين، لذا حرص الاستعمار عن طريق الغزو الفكري ضرب الدين عبر مؤسسات التعليم وعبر العلوم وعبر الأفكار والآداب والفنون، ويمكن القول دون مبالغة أن الاستعمار قد حرص على تفريغ كل عنصر نافع معه من مواده الحسنة، واستبقى منها ما يساعده في ضرب الإِسلام ذاته، وقد كان يستند في غزوه على معرفة

<<  <  ج: ص:  >  >>