جاء شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- وفاته (٧٢٨ هـ) في القرن الثامن ليصحح المسار في باب العلوم الدينية والدنيوية ومناهجها، فمع أنه البحر في علوم الشريعة، فهو إلى جانب ذلك على معرفة بالعلوم الأخرى المعهودة في زمنه، سواء كان ذلك في العلوم الطبيعية والرياضية وموضوعاتها من رياضيات وهندسة وطب وكيمياء وفلك وغيرها ومناهجها، أو في الفلسفة وموادها من منطق وإلهيات وغيرها، فكانت كتبهم وأعلامهم ومذاهبهم معروفة لديه (١)، ولذا كان يناقش وينقد وهو العارف بها، كأن يوجد عالم في زمننا هذا على معرفة بالطب الحديث وكشوفاته أو على اطلاع ومعرفة بالعلوم الطبيعية من فيزياء وفلك وجيولوجيا وكيمياء وغيرها وعلى أعلامها ونظرياتهم، أو على معرفة بالعلوم الاجتماعية ومناهجها ونظرياتها فضلًا عن معرفته بالمذاهب الفلسفية وأصولها ومناهجها، وهو مع معرفته هذه عالم بالشرع مجتهد فيه بارع في علومه، هكذا كانت حال شيخ الإِسلام -رحمه الله-؛ أي: إن قول القائل: إنه العالم بالمنقول والمعقول يعني أنه عالم بكل علوم عصره، الدينية والدنيوية، علوم الأمة وعلوم الأمم الأخرى، مذاهب الأمة ومذاهب الأمم الأخرى.
لا شك أن هذه المعرفة تؤهل صاحبها للقول الفصل وبيان الموقف الحق، ولهذا لم يكن أصحاب المذاهب الأخرى المشهورة في درجة موقف شيخ الإِسلام، فقد عُرف في تاريخ الفكر الإِسلامي موقف الغزالي السابق مثلًا، وموقف ابن رشد، وغيرهما من أرباب الكلام والفلسفة والفكر، ولكن الفرق شاسع بين من اختلط فكره بالكلام أو التصوف أو الفلسفة وبين من كان محيطًا بها عارفًا بموادها دون أن يختلط بها أو تُؤثِّر فيه كما هو حال شيخ الإِسلام ابن تيمية فضلًا عن الاعتراف بمنزلته في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلومها حتى يظن من قرأ له في أحدها أنه لا علم عنده إلا هذا العلم.
ومع أن الموقف الذي بينه شيخ الإِسلام يكمل المواقف السابقة لعلماء المسلمين ويتممها بما فيها المواقف الحسنة لعلماء تأثروا بالكلام والفلسفة، إلا
(١) يمكن النظر إلى جزء من ذلك في "فهارس الفتاوى" التي تبيّن سعة معرفة شيخ الإِسلام بهذه الفنون المختلفة أو "فهارس الدرء".