للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقينيًا إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى" وهنا يتشابه ابن تيمية وجون إستيوارت مل، بل يكاد مل يتكلم بأسلوب ابن تيمية في كتابه Asystem of logic وهو يذكر مثال النار هذا" (١).

إن شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- لا يكتفي بالنقد الهادم دون ثمرة، بل إن نقده يفتح الباب للتأسيس المنهجي والنظري للحركة في العلوم الدنيوية، ومع أنها ليست ميدان عنايته إلا أن التأصيل لها هو من مهمات العلماء. ولكن هذا العمل العظيم الذي قام به شيخ الإِسلام -رحمه الله- قد جاء في وقت ضعف شديد للأمة، وللأسف تخلت الأمة عن هذه الرؤية فأخذتها أمة أخرى، فانتقلت من المنهج الصوري العقيم إلى المنهج التجريبي النافع، وبرعت في العلوم الدنيوية.

٢ - إعادة ترتيب الموقف من العلوم:

وكما قدم شيخ الإِسلام موقفه النقدي من المنهج السائد آنذاك، فقد قدم أيضًا إعادة ترتيب للعلوم الدنيوية: بحيث يعالج التوظيف السلبي لها أولًا، ثم توضع في مكانها المناسب ثانيًا، ثم يقدم لها التشجيع والدعم في الأبواب النافعة ثالثًا.

فقد كانت العلوم تؤخذ ضمن مُركّب مزعج، حيث كانت ضمن الفلسفة، وتتفاعل تلك العلوم مع بعض المعطيات الفلسفية، ومن ثمّ تتأثر بها، فقد أخضعها الفلاسفة لأهوائهم الفلسفية، بما في ذلك أوائل الفلاسفة من اليونان وغيرهم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام: "وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية. لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًا" (٢)، ورغم أن متفلسفة أهل الأديان أحسن حالًا من الفلاسفة الوثنيين ومع ذلك فقد بقيت مادتهم الفاسدة تؤثر في هذه العلوم، وفي ذلك يقول شيخ الإِسلام أيضًا: "نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد. وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم


(١) مناهج البحث عند مفكري الإِسلام. . . .، د. على النشار ص ٢٢٦، وانظر كلام ابن تيمية، الفتاوي ٩/ ٢١٩ وما بعدها.
(٢) الفتاوى، ١٩/ ٣٣٠ - ٣٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>