وبعد هذه المنزلة الكبيرة التي جعلها الإسلام للعلم جاء دوره في وضع صورة جديدة لمفهوم العلم، فهناك إعادة تشكيل جذرية لمفهوم العلم تطال كل أموره، تطال المضمون والترتيب والغاية، فقد جاء الإسلام بعد أن وصل العالم إلى مرحلة صعبة من الجهل والظلم، فجاء بالتوحيد والعلم والعدل، فكان من رسالة الإسلام رفع شأن العلم بعد ملئه بمضمون جديد يقوم على العلم بالله وبدينه وبشرعه وبأمره ونهيه وبما أنزله مما يُصلح حال العالم، وأعاد ترتيب الأولويات في العلم، وكان قد أُهمل علم الدين الحق، ووُضع عند من بقي عندهم منه شيء في أسفل الهرم، وانشغل الناس بعلوم محرمة أو مفضولة وقدموها على العلم الأهم، وأخيرًا ربط الإسلام العلم بقيم وغايات قد غفل عنها البشر. فانطلقت الأمة الوليدة بهذا العلم الذي ورثته عن نبيها - صلى الله عليه وسلم -، كما أنها قد أخذت علوم الأمم النافعة وأدخلتها ضمن المفهوم الجديد للعلم. ومن بين النصوص القديمة -نسبيًا- والشاملة نجد كلامًا نفيسًا حول القضايا السابقة لابن عبد البر - رحمه الله - (٣٦٨ - ٤٦٣ هـ)، نختصر منه بعض المعالم رغم طوله وأهميته إذ قال:"باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المتصرفات بحسب تصرف الحاجات وسائر العلوم المنتحلات عند جميع أهل المقالات"، بدأه بتعريف العلم وأقسامه فقال: "حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئًا وتبينه فقد علمه،. . . .
والعلوم تنقسم قسمين: ضروري ومكتسب، فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يُدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركًا ساكنًا،. . . . وأما العلم المكتسب فهو ما كان طريقه الاستدلال والنظر، ومنه الخفي والجلي، فما قرب منه من العلوم الضرورية كان أجلى، وما بَعُد منها كان أخفى. والمعلومات على ضربين: شاهد وغائب، فالشاهد ما عُلم ضرورةً، والغائب ما عُلم بدلالة من الشاهد.
والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى، وعلم أسفل، وعلم أوسط. فالعلم الأسفل هو: تدريب الجوارح في الأعمال والطاعات، كالفروسية والسياحة والخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو أن يأتي عليها وصف. والعلم الأعلى عندهم: علم الدين الذي لا