إذا اكتفينا بالإنتاج المكتوب للشيخ محمَّد عبده فنجد أشهر كتبه هي التي لها علاقة بالصراع الفكري الدائر، فمؤلفاته المهمة كانت في هذا الميدان ولاسيّما العلاقة بين الدين والعلم، وقد سبق كلام الشيخ في مطلع البحث، واعترافه أن صلب مشروعه يقوم على التحرر من التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة ضمن موازين العقل، ويكون على هذا الوجه صديقًا للعلم، ويهمنا المنهج الذي يقرره.
نجد هذا المنهج مثلًا في رد الشيخ "محمَّد عبده" على "هانوتو" وزير خارجية فرنسا، وكذا في رده على "فرح أنطون" صاحب مجلة "الجامعة"، وهما يستعيدان فيما يظهر نفس إشكالية "رينان" حول موقف الإِسلام من العلم، فأخرج "الرد على هانوتو" و"الإِسلام والنصرانية بين العلم والمدنية"(١)، فكانت أعماله البارزة هي تلك التي ترد على المتغربين ومن خلفهم من الغربيين، وهي مما أكسبه مكانة داخل البيئة الإِسلامية، إذ تصدى للمشكلات الساخنة في زمنه، ولم يتهرب عن مواجهتها ولاسيّما بعد أن أغرقت الجيل المثقف آنذاك. وبقدر ما يُشكر وأمثاله على هذا الموقف بقدر ما يجب علينا الحذر من مزالق "مناهج الردود" لما تتصف به من ظرفية زمانية لا يصح جعلها منهجًا ثابتًا، فضلًا عن ضعف ينتاب أي منهج طموحه الرد ولاسيّما إذا بُني على أصول ضعيفة أو خطيرة تحمل في طياتها إمكانية الاستثمار السلبي لها مثل منهجية التأويل.
ففي رده -أولًا- على "هانوتو"، ذكر أصولًا للإسلام تبين حقيقته، وأنه يختلف عن تلك الدعاوى التي أثارها هانوتو وأمثاله، ومنها الأصل الأول:"النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فأول أساس وضع عليه الإِسلام هو النظر العقلي. . . ."، ثم جاء الأصل الثاني الذي بيّن المنهج كما استقر عند مدرسة محمَّد عبده "تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإِسلامية -إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه- على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف
(١) انظر: قائمة أعماله وكتاباته ومؤلفاته في: الإِمام محمَّد عبده. مجلد الدنيا بتجديد الدين، محمَّد عمارة ص ٢٨ - ٤٦.