بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف، حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم الأرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها" (١).
هذا المنهج الذي حدده الشيخ في النص السابق وأعطاه في الوقت نفسه صفة التعميم وجعله منهج عامة المسلمين يكشف تحليله بعض الإشكالات التي يثيرها، ويثيرها المنهج عمومًا. لا أحد يخالف الشيخ في الدور الكبير الذي منحه الإِسلام للعقل، ولكن لا يصل ذلك إلى تقديمه على الوحي -وإن كان الشيخ كغيره يحتاط بقوله: ظاهر الشرع- إذ كيف يمكن أن نتصور أن الشرع الذي أعطى العقل كل هذا الدور، أنه يصل إلى أن يجعله حاكمًا عليه، كأن الشرع هنا يقول: لك أيها العقل الحرية حتى إذا وجدت أنك لا تستطيع قبولي فلا تقبلني، وهذا أمر لا يمكن تصوره. مع العلم أن "أهل الكلام" في تاريخ الفكر الإِسلامي قد جمعوا عشرات الحجج على هذه القضية ومع ذلك فلا يمكن أن تستقيم بمثل هذا السياق، أن يُقال بأن الشرع قد أعطى العقل حريته حتى لو وصل الأمر في تقديمه على الشرع ذاته، ولذا لم ترتح نفوس العقلاء، ولم تذهب المشكلة إلا بالموقف السلفي الذي أبرزه شيخ الإِسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" وغيره من مؤلفاته، وخلاصته: أنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وإن وجد تعارض فيقدم الأقوى منهما، وسيأتي بإذن الله بيان ذلك في الباب الثالث، لأكتفي هنا بإبراز مشكلة من مشكلات هذا المنهج، وهو أن جعل العقل مقدَّمًا بإطلاق لا يصح، كما أن هذا التقديم فتح الباب لمنهجية "التأويل" كمنهجية للهروب من المشكلة المتوهمة بدل مواجهتها،
(١) الإِسلام دين العلم والمدينة، الشيخ محمَّد عبده ص ١٣٠ - ١٣١، تحقيق ودراسة د. عاطف العراقي.