والمزعج في كلامه ما ذكره من "اتفاق أهل الملة الإِسلامية إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه"، مع العلم أن مزاعم التعارض وطريقة التأويل لم تظهر في الأمة إلا بعد القرون الفاضلة، وما اتسع أمره إلا في العصور الأخيرة، فضلًا عن أن سلف الأمة ومن سار على مذهبهم من أهل السنة يرفضون هذا المنهج، وليسوا بالقلة التي تجعل الشيخ يتجاهلهم إلى هذه الدرجة.
وقد سبق أن هذا التيار ينتسب في الأصل إلى تيار (كلامي / صوفي) كان السائد فيه هذا المنهج الذي تأصل مع الاتجاه المحافظ من هذا التيار، مكتفيًا بالتطبيق على ما هو منقول له من الماضي، ولا يتجاوز دوره دور الشرح والتكرير، دون أن يظهر دليل عقلي جديد، فجاء محمَّد عبده ليوسع ذلك ويخرجه عن الإطار المحافظ بتطبيقات جديدة، أهمها المعارف العلمية الجديدة التي كان الشيخ يواجهها بمثل هذا المنهج، وهو منهج يحيلنا إلى طريقين: إما "التفويض" وهو ما لا يناسب حال المتشككين والمرتابين والمتزلزلة قلوبهم من الشبهات التي حلّت بها، أو"التأويل" وهو الذي ارتاحت إليه بعض النفوس بما يحدثه من تسكين مؤقت لنفوسهم. هنا تظهر ثغرات المنهج فـ"التفويض" لا يرفع انزعاج القلوب المرتابة، بخلاف من أبطل المعارض وأثبت فساده، فإنه يريح قلب المتشكك المتألم، كما أن "التأويل" وإن هدأ القلب بعض الوقت، فإنه سرعان ما يذهب أثره مع انكشاف ضعفه أو ظهور تعارضٍ جديد.
بقي التأكيد مع الشيخ أن الإِسلام قد وجه العقل إلى مجالات كثيرة، وحرره من قيود كثيرة، ونشاركه أن العقل لم يبق له سوى الانطلاق في تلك المساحات الهائلة المتاحة أمامه، وهو إذا سار سيرًا صحيحًا فلا يتعارض مع الدين.
جاء المنهج في سياق الرد على الطاعنين في الإِسلام، وجاء أيضًا بصورة موسعة مع تطبيقات مختلفة في تفسيره، فبعد إلحاح كبير من تلميذه الشيخ "محمَّد رشيد رضا" وافق الشيخ محمَّد عبده على عقد درس للتفسير، كان الشيخ رضا يحضره ويسجل مع شيخه، ثم يبيضه ويضيف عليه ثم يخرجه في مجلة "المنار"(١).
(١) انظر: مقدمة تفسير المنار للشيخ محمَّد رشيد رضا ١/ ١٢ - ١٦.