مصدرها هو الاتجاه التغريبي، وتلقفها الفكر الإِسلامي لنقد منهج عبده، والذي أراه بعد أن تأملت في المتأثرين بالشيخ والمحبين له، أنهم ساروا إلى أكثر من اتجاه: فمنهم من اتجه نحو السلفية، ومنهم من اتجه نحو العلمنة، ومنهم من بقي على طريقة الشيخ، فلماذا اتهم الشيخ في أنه كان طريقًا للعلمنة ولم يتهم في أنه قرب آخرين من السلفية، أو قرب متغربين من الإِسلام! فإن العدل يدفع الباحث المسلم إلى فحص كل المقولات المتعلقة بمشاهير المسلمين، حتى وإن اختلف معهم في منهجهم، وعلينا أن نتذكر عند ورود مثل هذه المقولة بأن جهود الشيخ قد نجحت في صرف بعض الفضلاء عن البدع والتصوف، وعندما تحرروا منها اتجهوا إلى السلفية، وأنها نجحت أيضًا في تقريب بعض المتغربين من الإِسلام بعد هروبهم منه، وأنها نجحت في تخفيف حدة الشكوك عند الجيل الشاب المثقف، بعد أن عصفت بهم تيارات التغريب وزلزلت قلوبهم، في وقت تخلّى بعض العلماء عن مواجهة هذه الشبهات فتركوا شباب المسلمين فريسة لتيارات التغريب. فمثل هذه المسائل تدفعنا إلى النظر في هذه المقولة المشهورة عن هذا الاتجاه وعن رمزه العلمي والفكري المشهور الشيخ محمَّد عبده. والطريف في الأمر أن محمَّد عبده وخصومه ينتمون إلى منهج واحد ويختلفون فقط في التطبيقات، فهم ينتمون إلى منهجية ترى بأن العقل مقدم على النقل عند التعارض، وأنه يجب عند التعارض إما التفويض أو التأويل، ومع ذلك نجد أطرافًا يقفون مع محمَّد عبده ضد خصومه، ونجد من يقف مع خصومه ضده، مع أنهما ينتميان في الحقيقة إلى منهج واحد، ولذا فإننا إن أردنا الإنصاف فعلينا أن نُحمّل المنهج (التوفيقي - التلفيقي) مشكلة تسرب الأفكار المنحرفة، وهو منهج يشترك فيه الطرفان، محمَّد عبده وخصومه من أتباع المنهج الكلامي، فمن الخطأ أحيانًا ما نشاهده من أخذ مقولات خصوم الشيخ ممن هم على نفس منهجه دون التنبيه إلى الملحظ السابق.
والذي يظهر لي بعد المراجعة التاريخية للوقائع وتحليل المقولات بأن فكر محمَّد عبده قد تسبب في حالين متعارضتين: فمن جهة قرّب أناسًا من الاتجاه السلفي بما حررهم من قيد التقليد وحثهم على فهم الوحي على طريقة السلف وإعمال العقل، فالصالح منهم توجه إلى منهج السلف أو اقترب منه؛ لأن من ابتعد عن التقليد المذموم واستخدم عقله وعاد للوحي فسيقوده ذلك إن سلِم من