لا يأتيه الباطل ولا يقع فيه التغير، فيكون مصدر معارفهم الدينية، ويثقون فيه أكثر من ثقتهم بأنفسهم. بخلاف من اضطرب عندهم "الوحي" بعد أن تأكد لهم التحريف في نصوصه، وفقدوا إمكانية إيجاد سند متصل إلى قائله، فيصبح مصدرًا للقلق والشك، وقد وجدها أهل الإلحاد في الفكر الأوروبي الحديث فرصة لإقصاء "الوحي" تمامًا من ميدان الحقائق، إما بإنكارها صراحة كما هو حال الملحدين أو بجعلها في قسم الوجدان من قبل طائفة منهم.
٤ - ومن باب التنزّل مع المخالف، فإن الناقد يعرف أن مكونات الوجدان لا تعتبر عند أصحابها مصدرًا للحقيقة، فلا الأديب ولا الفنان ومن في حكمهما يقول: إن محتوى مادته مصدرٌ للحقيقة، وإنما هي تعبير عن المشاعر، فكيف يوضع الدين ضمن هذه الدائرة!
صحيح أن هناك عناصر أساسية في الدين لا تدخل ميدان التحقق التجريبي والحسي، فهي من عالم الغيب (١)، ولكنها في الوقت نفسه لا تدخل في دائرة الوجدان، فهي ليست تعبيرًا عن المشاعر، وإنما هي أخبار يُصدق بها أو شرائع يعمل بها، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من طريق ثالث، فلسنا عبيدًا لتقسيمات اصطنعتها مذاهب فلسفية تحصرنا بداخلها وتضطرنا لإضاعة ما جاءنا من ربنا. فليكن مصدر العلوم البشرية الاستنباط العقلي والتجريب الواقعي، وليكن حظ الوجدان في الآداب والفنون والأمور الممتعة، ولكن الدين لا مصدر له إلا الوحي، وكمال الحياة البشرية ليس بالعلم وحده ولا بالمتع الوجدانية وحدها وإنما بالدين الحق، والعلم البشري والإبداع البشري سيبقى قاسيًا على حياة البشر ما لم يستضئ بنور الوحي.
٥ - توصلنا الفقرة السابقة إلى مفهوم الدليل الشرعي عند أهل السنة:
فقد كان كثير من أهل الكلام يرون أن الدليل الشرعي مقتصر على ما أفاده الخبر، فيكون التصديق بالموضوعات والأصول الدينية متوقفًا فقط على التصديق بالخبر، ورأوا أن الكتاب والسنة ليس فيهما أدلة عقلية، وإنما أخبار محضة عن مغيبات يجب التصديق بها، وغفلوا عن أن الأدلة القرآنية التي جادلت المشركين وأهل الكتاب كانت تجادل من لا يقرون بالنبوة ولا يقرون بالوحي، فكانت
(١) انظر: الفصل الأول من الباب الثاني من هذا المبحث.