تفكروا في المخلوقات لعلموا صعوبة الإحاطة بعلمها فكيف بما هو أعظم منها من شأن الغيب؟! وفي الوقت نفسه يستحيل الإقرار بهذا العالم المخلوق الكبير دون أن يكون خلفه موجد خالق مدبر.
لهذا نجد مثل هذا التنبيه المتكرر بالنظر في عالم المخلوقات للاستدلال بها على عالم الغيب، ومن المهم أن يدرك كل أحد أن طريقة القرآن هي أعظم الطرق، فإذا كان القرآن قد أكثر من الاستدلال بعالم المخلوقات على خالقها وعلى الغيب الذي ينكره المنكرون، فهذا يعني أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق لمناقشة المكذبين بالغيب والمنكرين له والكافرين به.
ومن نظر في الآيات التي تأمر بالنظر في المخلوقات وجد فيها حشدًا كبيرًا من أنواع الأدلة الفطرية والضرورية والحسية والعقلية التي تدل كل عاقل إلى الإقرار بالغيب؛ أي: أن ذكر هذه المخلوقات ودلالاتها على الخالق ليس ذكرًا مباشرًا مما يناسب صاحب المعرفة المحدودة بل إنه آيات متسعة لأنواع من الأدلة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ويبقى على المسلم النظر فيها وطلب الفتح من الفتاح سبحانه بأن يكشف له من عجائب كتابه المبين "الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله"(١).
عندما واجه الإِسلام الشرك والكفر كان له طرقه في ذلك، ومن أشهرها إلجاؤهم للنظر في هذا العالم المخلوق، ففي ذلك عبرة لصاحب العقل السليم، فيترك الملحد والكافر التكذيب ويترك المشرك عبادة غير الله. ويعلم المسلم في كل زمان أن ما دلنا عليه القرآن هو الأهدى في دعوة هؤلاء، فهو من خالق
(١) رواه الترمذي برقم (٢٨٣١) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (٢١٣٨)، وقد ساقه ابن تيمية كاقتباس دون نسبة في افتتاح مقدمة التفسير [الفتاوى ١٣/ ٣٣٠]، فمعانيه جميلة وصحيحة.