للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العالم الحقيقي في موضوعيته بعيدًا عن دورنا فيه، فلا علم لنا به، ولذلك فحقيقة المادة أو حقيقة العالم مجهولة لنا تمامًا" (١)، ثم استعرض بعض الأبعاد الفكرية الجديدة التي ترتبت على التحولات العلمية الضخمة أوائل القرن العشرين (١٤ هـ)، ثم قال: "فهؤلاء علماء الطبيعة في هذا القرن -وقد فهموا المثالية بالمعنى الفلسفي الدقيق حين تحدثوا عن أولوية الوجود العقلي على وجود المادة، لكن ليس هذا المعنى هو كل ما أرادوه بالمثالية، إذ فهموها بمعان أخرى يمكن حصرها في النقط التالية: (أ) استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تمامًا عن العالم المادي، وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا، (ب) معرفتنا "تركيب عقلي". . . . تلعب فيها الذات دورًا أساسيًا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للواقع، (ج) معرفتنا للعالم المادي مصاغة في صيغ رياضية مجردة تبعد بنا عن المألوف عن المادة وتقربنا من وجود ذهني" (٢).

وقال أيضًا: "وعلى آية حال فإن المواقف الفلسفية للعلماء تبين لنا أن العالم العملاق متأثر بنظرية الفلاسفة، وتظهرنا أيضًا على أن عالم المادة يدعو إلى الدهشة والقلق وليس كتابًا مفتوحًا يعرف أعماقه كل إنسان" (٣).

فهذا التحول الكبير له دلالاته، فقد كان العلم ولاسيّما في صورته المادية قد اغترّ بعالم المحسوس، ورفض كل معرفة غيبية، وادعى المعرفة الكاملة بهذا العالم المادي، وأن النواقص التي فيه ستُحسم قريبًا وفي سنوات قليلة، ومن ثم فقد انتهى الغيب، ثم يحدث تغيّر جذري من داخل العلم ذاته، ويتحول العلماء إلى عوالم مدهشة في الكون الكبير وعالم الذرة الصغير، زعزعة كل هذه الدعاوى الفكرية التي بُنيت على العلم القديم، ليعترف العلماء بأن معرفتنا بعالم المادة ليست كما كان يتصور علماء القرن التاسع عشر.

وإن عالم المادة رغم ما يُظن فيه من بساطة ليحوي في داخله عالمًا عجيبًا


(١) من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص ٨٢.
(٢) المرجع ص ٨٤. وهذا التحول القائم على إنكار الجوانب الموضوعية، وإعلاء الذاتية، فيه غلّو، وهو المقابل للغلّو البارز في دعاة الموضوعية، وهذا الانتقال من جهة إلى جهة، حالة مألوفة في الفكر الغربي، وهدى الله أهل الإِسلام إلى الوسط.
(٣) المرجع السابق، زيدان ص ١٠٠، وانظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص ١٠٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>