للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أن "تحديدنا الخاص الذي نقدّمه عن الوحي يمتاز بخصيصة فريدة، هو أنه يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة، وكل الأصوات الكبرى التي جسّدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما، من أجل إدخالها في قدرٍ تاريخي جديد وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي. إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي" (١).

هكذا تُوصِل منهجية "أركون" العلمية في باب الوحي إلى إنكار الوحي، العلمية هنا حول الوحي تعني: إنكاره، وذلك أن المناهج العلمية لا يمكنها في الحقيقة التعامل المناسب مع الغيب، مناهج البشر الحسية لا تنطبق إلا على المجالات المحسوسة، وأمور الغيب ليست محسوسة، ومن هنا محاولة "أركون" في تحويل الوحي لفكرة محسوسة أو التكذيب بحقيقته الغيبية وتحويله لمجاز وأساطير حتى يمكن تطبيق المنهجيات عليه. قد يرفع المتغربون سبهم للإسلاميين بعدم تطبيق المنهجيات العلمية على الوحي، والحقيقة أنهم من أكثر الناس تحمسًا للعلوم، كيف لا وهم يشعرون بكثرة الحثّ الشرعي على العلم والعلمية، ولكن ليس من العلم تطبيق المنهج على مادة لا تناسبه، وعندما تُقحم مناهج علمية على أبواب لا تناسبها يأتي الخلل.

عرض الدكتور "غيبة" تصورًا جيدًا عن الوحي في بادئ الأمر ما لبث أن انحرف في آخره، حيث بدأ بسؤال: ما "هي حقيقة الوحي والأنبياء والرسل على ضوء ما يُصَدِّق العقل؟ " (٢)، ثم استعرض ما ورد في الوحي عن الوحي، ولكنه أساء في تفسيره بعد ذلك لمفهوم الوحي، حيث انطلق من مفهوم الإلهام، الذي يُعدّ مصدر الإبداع عند الإنسان بحسب كلامه، ثم نظر في أهم انبثاقات الإلهام في الشعر، "وليس الشعر هو الإنتاج الوحيد للإلهام. بل كان ولا يزال هناك تواصل دائم بين بعض أصحاب النفوس الذكية، الشفافة، وبين المُثُل الإنسانية من حقيقة وخير وجمال"، وهي في حق الأنبياء أولى، فوحي الأنبياء هو نوع عالٍ من هذا الإلهام، وليس وحيًا بالمعنى الوارد في الكتاب والسنة، وذلك أنه بحسب تصوره تستحيل حقيقة الاتصال بين الرب سبحانه وبين أنبيائه وذاك أشبه


(١) الفكر الإِسلامي. . . . ص ٨٤.
(٢) هكذا تكلم العقل .. ، د. حيدر غيبة ص ٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>