وقد استعرض إنجازات العلم المذهلة ولكنه قال: إن "العلم لا يستطيع بمفرده أن يجيب على عدد كبير من التساؤلات. . . ."(١)، وهي غالبًا تساؤلات ترتبط بالقدرة الإلهية التي أوجدت تلك الأحداث المختلفة في العالم الصغير "الذرة والخلية" والعالم الكبير "الكون بمجراته" والعالم البعيد "بداية الخلق". ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى إثبات ما ورد في الغيب، فقد جعله رمزيًا أو قريبًا من ذلك، بينما الحقيقة عنده تكمن في العلم الطبيعي، ويكون الإيمان فقط لتفسير التحولات والتغيرات التي يستحيل على العلم قول شيء فيها. وقد يكون هذا النوع من الانحراف ناتجًا من الضعف أمام شهرة العلم وضخامته وفتنته، مما يجعل البعض يخشى مخالفته أو أن يُتهم بعدم علميته وتسليمه بالغيبيات، وقد يخف مثل هذا الافتتان عند نجاح النشاط الإِسلامي المقابل له في تأصيل الأطر العلمية وأسلمة المعرفة.
قبل مواصلة الحديث مع الاتجاه التغريبي نأخذ بعض الأصول التي تبرز في هذا الباب، قد برزت بعض ملامحها في المثال السابق، وهي أصرح عند المتغربين المتطرفين، ويجدون فيها فرصة للطعن في قضايا الغيب، ومن أهمها -لاسيّما ما له علاقة بالجانب الديني- الأصول التالية:
١ - ترسيخ القول بوجود خطابين للمعرفة والوصول للحقيقة -لاسيّما في تلك المسائل التي جاء ذكرها في الوحي واهتم بها العلم، مثل: خلق الكون والحياة والإنسان- خطاب ديني وخطاب علمي، فإذا جاؤوا إلى الديني الذي تكلم عن هذه القضايا طلبوا تأويله وأن يُعدّ رمزيًا، وإذا جاؤوا إلى العلمي حكموا به وقدموه مع أنه نظريات يصعب القطع بها. والأصل هنا أن لا يصرف الخبر الديني عن ظاهرة إلا عند وجود حقائق قطعية، وهو متعذر في باب النظريات التي تبحث الماضي البعيد. وعند افتراض علمية النظريات وقيامها على تجارب ومشاهدات وحسابات متينة، فهي مع كل ذلك، وباعتراف العلماء وباعتراف فلسفة العلم، لا تتجاوز كونها نظرية ظنية لا يمكن القطع بها، وبهذا يكون المقدم عند تعارض الأدلة هو القطعي منها، وليس ما يفعله هؤلاء من وضع الظني من النظريات موضع القطعي، وصرف القطعي عن ظاهره مطلقًا،