الأجهزة الحديثة التي تُصوّر كيفيات تخلق الجنين في بطن الأم عُرف معنى تلك الآيات على وجه مفصل، وهذه من دلائل النبوة، حيث إن ما جاء في القرآن هو نفسه الذي كشفته الأجهزة، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية حول قوله -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)} [العلق: ١ - ٢]: "فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق. وهذا أمر معلوم لجميع الناس، كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه، وأنه يكون من علق، وهؤلاء بنو آدم. وقوله: الإنسان هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين؛ فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق. فأما خلق آدم من طين فذاك إنما علم بخبر الأنبياء أو بدلائل أخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة وهذه السورة أول ما نزل وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق"(١).
فما كان من الغيب الذي لا يُعلم إلا بالخبر، فهذا لا يستطيع الناس القطع فيه بشيء، وأما ما كان من الغيب النسبي، ومن ذلك بعض الكيفيات التي وقع عليها الخلق، فهذه إن جاء العلم بذكر شيء منها مما ورد ذكره في الوحي، فلابد من اجتماع علماء المسلمين من البابين: علماء الشريعة وعلماء الطبيعة، فيُخرجوا الاجتهاد الشرعي حول هذه الأمور. ومن نظر في واقع الناس اليوم عرف أهمية مثل هذا العمل، بسبب فوضى النظريات العلمية في أبواب الغيب النسبي، وقد تؤثر في الناس لاسيّما وهي موجودة في كل مكان، ومثل هذا الباب لا يكفي فيه جهد باحث، وإنما هو في حاجة لعمل مؤسسي، وقد أقام الناس مؤسسات وجمعيات في أبسط الأمور وأقلها شأنًا، فمن باب أولى أمور عظيمة مثل هذا الباب. مع أن المهتمين بهذه المجالات العلمية يعترفون بصعوبة الجزم في مثل هذه الأبواب، ومع ذلك تجد المتغربين يطرحونها بكل سهولة في