العلماء في باب العلوم الطبيعية نحو المثالية، كما رأينا في المبحث الأول من الباب الأول مقولة العوالم الثلاثة في المجال العلمي، وخلاصتها في الطرفين أن التعبير عن حقائق موضوعية في غاية الصعوبة، وأن كل ما نعبر عنه هو عن ظواهرها، وأن ما نعبر عنه إنما هو تصورات ذهنية قد تكون بعيدة عن الحقيقة الموضوعية للأشياء. وليس المقصود التسليم بهذه النتائج، بقدر ما المقصود إثبات اختلاف مؤسسي هذه المنهجيات.
ويختلف عنه النموذج التغريبي الصرف الذي يحرص على رفع تلك النظريات إلى حقائق موضوعية بكل تركيبتها، ثم وضعها بديلًا عن الدين، بل أداة للتكذيب بالغيب، ومن بين الأمثلة نجد ممثلًا لما يدعى بالتيار العلمي في الفكر التغريبي وهو سلامة موسى، ونجد ممثلًا لما يدعى بالتيار الماركسي وهو صادق العظم، حيث يحرص هؤلاء في أثناء عرض النظريات العلمية عن وجود الكون والحياة والإنسان أن تكون أداةً للتكذيب بالغيب، وكل له طريقته في ذلك، ويعد "سلامة موسى" الرائد لسبقه التاريخي في نشر كل التناقضات الغربية في البيئة الفكرية، ثم جاء التخصص في الأفكار بعده، حيث برزت اتجاهات فكرية متخصصة.
يبدأ "موسى" في ذكر أصل الكون بحسب ما تقوله النظريات الحديثة، وهو يتكلم على عالم دون خالق له، ينظر في قوى الكون الخاصة وطريقتها في التكوين وطريقتها في تدبير أمرها وطريقتها في إحداث التغييرات والتحولات، وأن الكون كان كتلة واحدة قبل ملايين السنين، ثم انفجرت هذه الكتلة فنشأت منها المجرات، ومن الملاحظ وجود نجوم تولد وأخرى تموت ومثلها سيكون مصير مجرتنا ومجموعتها الشمسية، ولكن ذلك يستغرق ملايين السنين، وقد ظهرت ظروف جعلت من الأرض مكانًا مناسبًا للحياة، ويقطع بوجود كثير مثلها تتبع نجومًا أخرى كما تتبع الأرض نجم الشمس، وقد بدأت الحياة من الماء عبر كائنات صغيرة، بدأت تتجاوز الماء نحو اليابسة، وقد احتاجت لتحقيق مغامرتها الجديدة إلى تغير في خياشيمها، وإلى تحولات في أطرافها تساعدها على المشي، فظهرت البرمائيات متكيفة مع الوضع الجديد، وبدأت حياة جديدة على الأرض، تطورت عبر ملايين السنين حتى وصلت للإنسان (١)، حيث وصل تطور
(١) انظر: الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص ٥٦ - ٧٨.