للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحار فيه العقول مما يجعلها بين خيارين: إما التسليم بالغيب الصادق أو التكذيب به، ولكن ليس في الآيات ما تستحيله العقول، وما يذكرونه من صور الاستحالة فهي استحالة ترتبط بمصدرها وإطارها من معقولات ومعلومات تجمعت في ظلّ تصور علماني، فهي استحالة ظنية وليست حقيقية، فقد ارتبطت استحالتهم بالفيزياء الكلاسيكية حتى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم انهارت تلك المستحيلات مع نظرية الكم ونظرية النسبية، وظهر إطار جديد قد ترتبط به استحالات جديدة، ولهذا يكون الحق في باب الغيبيات بطريق واحد هو الارتباط بالوحي؛ لأنه خبر صادق وحق وإطار نهائي وقمة عالية لا يعلوها شيء وبهذا يختفي ضلال العقول.

ولكن المتغربين لا يجدون في الغرب العلماني إلا ما يناسب هواهم فيسقطون عليه، ويتخذونه ذريعة للتكذيب، وعندما ظهر من المفكرين من يبيّن أن العلم الحديث لا يُكذّب بأمور الغيب بل فيه ما يدل على كثير من أصوله، لم يعجب هذا الموقف مفكرًا علمانيًا صرفًا كالعظمة الذي دافع عن كل شواذ الفكر، وصورهم كأبطال، فقال في نقده لمثل هذا المفكر: "وتوسط الساحة خطاب غيبي تجهيلي بالغ الرجعية، فأصبح تسخير سليمان الجن وركوبه الريح وكلامه مع الطير، وشق موسى البحر، حقائق وضعية،. . . ." (١)، وقد جاء هذا النقد في سياق عجيب، فقد عرضه في مساق دفاعه عن العلمانية ونمو العلمانية العربية، وركّز على فترة اشتهارها بالدهرية ثم فترة اشتهارها بالإلحاد، ثم حركتها تحت مصطلح العلمانية، مادحًا ومثنيًا ثم وقع الانعطاف بظهور الصحوة الإِسلامية، وجاء حديثه السابق في سياق ذمّه لهذا التحول، ومن ذلك عودتها إلى الإيمان بالمعجزات.

ومن بين من ينظر فقط لما يناسب هواه نجد كاتبًا آخر قد انغمس في تيارات مادية فلا ينظر إلا بعينيها ولا يتنفس إلا من رئتيها، فيقول في هذا الباب العظيم: "لا أعتقد أن الجيولوجيين سوف يرتاحون كثيرًا، من جهة نظر علمهم، إلى الآيات القرآنية التي تروي كيف شق موسى البحر الأحمر بعصاه، كما أنه ليس صحيحًا أن علماء الفيزياء والكيمياء لن يجدوا أي تناقض بين قوانين


(١) العلمانية من منظور مختلف ص ٢٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>