فإن قلت: ما بالُهم لم ينفعهم الندم كقوم يونس؟
والجواب أن ندمهم إنما كان على عدم قتلهم لولد الناقة، ولم يندموا على
قتلها، وكذلك نَدَم قابيل، ندم على كونه عجز عن إخفاءِ أخيه لا على قَتْله، فلذلك لم ينفعهما الندم، بخلاف قوم يونس فنَدَمهم كان حقيقةً، وآمنوا فنفعهم إيمانهم، وهذه الأمة المحمدية ينفعهم الندم للحديث: "الندم توبة".
وفي الحديث:
"إن الحفظة تصعد بعمَل العبد يقابلونه باللوح المحفوظ، فلا يجدون ما كتبوا
فيختلجوا، وإذا النداءُ من قِبَل الله: وصلت ندامةُ قلبه قبل وصولكم إليَّ".
(فبعثَ اللَّهُ غُرَاباً يبحثُ في الأرض) :
لما قتل قابيلُ أخاه، وأراق دمه، فاجتمع النّسور عليه، فتحير قابيل في دَفْنه، فأخذ يدور في الأرض، فكل قطرة وقعت من دم هابيل عليها صارت سبِخَة، فبعث الله غرابَين يقتتلان، فقتل أَحدهما الآخر، نم بحث الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فذلك قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦) .
والحكمة في بَعث الغراب لاسودَادِه، ولما كان القتل مستغرباً
إذ لم يكن معهودًا قَبْلَ ذلك ناسب بعث الغراب إليه، ولهذا اشتقوا من اسمه
الغربة والاغتراب والغريب.
ورَوَى أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امتَنّ اللهُ على ابن آدم بالريح بعد الروح "، ولولا ذلك ما دَفن حبيب حبيباً، وقابيلُ أول من يُساق إلى النار، وهو المراد بقوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ، وهما قابيل وإبليس.
وروَى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: يوم الدم، فيه حاضت حواء، وفيه قَتَل ابنُ آدم أخاه.
قال مقاتل: كانت السباع والطير تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربت منه الطير والوحش، ومالت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبَرَّت الأرض.