جعلتُ اليوم رزقكم هذا الجند، وقوَّى الله مناقرها، فلم يحجبها الدروعُ والمغافير حتى أكلت لحومهم ودماءهم، ولم يبق منهم أحد غير نمرود، فإنه هرب ورجع إلى بيته، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمْهله حتى يرى ما صنع الله بجنده، فلما دنا وقتُ عَذابه جعل يَحوم حَوْلَ منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيهاً لنمرود وإمهالاً له، كأنه تعالى يقول: أمهلتكَ لمعاصيك وكفرك ولم نأخذك بغتة، فإن رجعت إلينا في الثلاث فلك الأمان، ومنا القبول والإحسان، وإن لم ترجع فالعيبُ منك، أما نحن فقد استعملنا فَضْلنا وكرمنا.
وهكذا عادته سبحانه في إمهال الكفرة وعدَم أخْذِهم بغتة، فكيف بك يا
محمدي إنْ رجعْتَ إليه! أَتراه لا يقبلك، وقد عاتب أنبياءَه في عدم رحمتهم
بالكفَرة اللئام.
فإن قلت: قد عبَّر في آية الأنبياء، بـ (الأخسرين) ، فهل هما بمعنى
واحد؟
والجوابُ أن الصفتين من السفالة غاية حال الكافرين، ومَنْ كان من
الأسفلين فقد خسر خسراناً مبينا، فلا تضادَّ بين الصفتين، لأن السفول لاحق في ذات المنسفل والخسْرَان حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقدّم ما هو لاحق خارجيّ وأخّرَ ما لا يتعدى ذات المتصف به، تكملةً وتَتمَّة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رَعيْ الترتيب، والتسفّل ضد الترقي.
وقيل: رُوعي في الصفة مقابلة قولهم: (ابْنوا له بنْياناً) ، لأنه يفهم منه إرادتهم علوَّ أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضدّ، فجعلوا الأسفلين، وهو حسن.
(فإنهم يومئذ في العذاب مشْتَرِكون) :
الضمير يعود على المتبعين والأتباع، واشتراكهم في العذاب حكم عدل، إذ كلّ منهم مستحق، ألا ترى كيف وصفهم جميعاً بأنهم مجرمون.
فإن قلت: هل يفهم من اشتراكهم في العذاب استواؤهم فيه؟