ومنها أنه لو كان القرآن كله محكماً لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان
بصريحه مبطلاً لما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينَفِّر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فلما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله، ويتوصل إلى الحق.
ومنها أن القرآن إذا كان مشتملاً على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق
التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ، وطبائع العوامّ تنفر في
أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود
ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح.
فالقِسْم الأول هو الذي يخاطبون به في أول الأمر من التشابهات.
والقسم الثاني هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر
من المحكمات.
*******
[الوجه العاشر من وجوه إعجازه (اختلاف ألفاظه في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما)]
وقد ألَّف الناس في هذا الفن تواليف كابن الجزري والشاطبي وغيرهما ممن لا