(وقد مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهم) :
قد قدمنا صفةَ مكرهم.
ولذلك أجابهم بقوله: (فلِلَّهِ المَكرُ جميعاً) ، لأن مكرهم من
غير قدرة، وقدْرَتُه تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم.
فإن قلت: " من " لابتداء الغاية.
فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟
والجواب المراد أوَّل أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمنُ القريب مِن وقتك.
(ويقول الذين كفَرُوا لسْتَ مُرْسلاً) :
هذا تصريح بإنكارهم وقبح مقالهم، وكيف لا وقد رأوا ظهورَ الخوارق المعلوم صِدْق من ظهرت على يديه بالضرورة، وكان الواجب عليهم النظر، لأنه واجب بالشرع خلافاً للمعتزلة، فإنهم قالوا بالعقل، ولو كان واجباً بالشرع للزم عليه إفْحام الرسل، لأنه يقول: ما ننظرُ في معجزتك حتى يجب ذلك عليَّ، ولا يجب عليَّ إلا بقولك، وأنَا لا أصدقك.
وأجاب أهل السنة على ذلك بأن المعجزات والخوارق من الأمر الغريب.
والنفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور، وأيضاً إن قلنا: إن النظر بتكليف ما لا يُطاق، فنقول: إنه واجب، ولا يلزم ما ذكروه، وإن لم نقل بذلك فنقول: إنه متوقف على تمكّن العلم بنبوءةِ الرسل لا على حصول العلم بنبوءته.
ونقول له: إنك متمكّن من العلم، فانْظُر النظر الذي يوصلك إلى ذلك العلم.
فإن قلت: مقالَتهم ماضية، فلم قال، (ويقول الّذين كَفرُوا) ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أتى به مستقبلاً للتعجيب، كقوله: (ألم ترَ أنَّ الله أنزلَ من السماء
ماء فتصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) ، ولم يقل فأصبحت.
والثاني للتصوير، كأنها لم تزل واقعة مشاهدة.
والثالث ليتناول اللفظ مَنْ قالها ومَنْ سيقول مثلها في المستقبل.