(مُنْقَلِبون) :
هذا من قول السَّحَرة، وذلك أن الله تعالى قال له: يا موسى: إنَّ السحرة ألقوا حبالهم وعصيَّهم فرأيت منهم السحر العظيم، فألْق عصاك حتى تنظر إلى قُدْرة الرب الكريم، فألقى عصاه فإذا هي
ثعبان مُبين، فتلقّف سحْرَ السحرة كله، فقصد نحو الكفَّار فاتحاً فَاهُ، فنفر الكفَّار من كل جانب، ومات منهم ما لا يُحْصَى عددهم، ثم قصد نحو سرير فرعون، فلما دنا منه صاح فرعون ونادى: أغِثْني يا موسى، فأخذ موسى عصاه، فعادت إلى حالتها الأولى، فلما رآها السحرة خرّوا سجّداً، وكشف الله لهم حجاب الأرض، فرأوا الثرى، ورفعوا رؤوسهم فنظروا إلى العرش (١) فاشتاقوا للقاء الله، فقالوا: آمَنَّا بربَ العالمين، ربّ موسى وهارون.
فقال لهم فرعون: (آمَنْتُم به قبل أنْ آذَنَ لكم) .
فقالوا: لا ضَيْرَ يا فرعون، إنك لا تقطع إلا الأيدي والأرجل، ولا تقطع المحبة والمعرفة من قلوبنا.
والنكتة فيه أنَّ السحرة كانوا مع الكفر والخيانة، وأقسموا بعزّة فرعون.
وقصدوا المعارضة مع معجزة الرسول، فلما سجدوا سجدةً واحدة مع هذه
الكبائر، رفع الله لهم حجابَ الأرض والسماوات، وأكرمهم بالإيمان.
وأنت يا محمدي إذا سجدْتَ له سبعين سنة أو أكثر، وقصَدْتَ بيتَ الله بالتوبة والندامة، وطهَّرت نفسك من الحدث والخيانة أفَتَرَاكَ تحصر ما أعدّ لك من الكرامة، كلا وعزته ليكشفن لك عن ذاته حتى تتمتّع بقُرْبه في جواره.
(مبِين) : نعت لثعبان، وقد قدمنا أنه صار كالجبل
العظيم، ففي هذه الآية سماه ثعباناً، وفي أخرى حيّة، وفي أخرى جانٌّ، وفي
أخرى عصا، كلّ ذلك تعظيما لها، وكيف لا وقد أهلكت سبعين ألف وِقْر من السحر، وسمَّى كلمة التوحيد بسبعين اسما، ولذلك أهلكت سبعين سنّة بالكفر.
هذه العصا معجزة موسى بكلمة التوحيد التي هي كلمةُ المولى.
اللهم إنا نستودعكها فأحْيِنا عليها، وأَمِتْنا عليها، وثبِّتْنا عند الحاجة إليها بجاه كلامك ونبيك - صلى الله عليه وسلم.
(١) لا يخفى ما في هذه الكلام من بعد ومبالغة، فهي أقرب إلى الإسرائيليات المنكرة.