وعلى ذلك بنيت سورة " النازعات "، ألا ترى قوله: (يوم تَرْجف الراجفة.
تتبعها الرادفة) .
ووصف الطامة الكبرى، وما أتْبع به بَعْدُ.
وابتداء السورة وختامها قَبْلها تخويف وترهيب، فناسبها أشدّ العبارتين موقعاً، وأرهبها.
وأما سورة عبس فلم تبْن على ذلك الغرض، وإنما ئنيت على قصة عبد اللَه ابن أم مكتوم الأعمى.
وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخّة) عَقِب التذكير
بقوله: (إنها تَذْكِرَة) ، والتذكير للاعتبار بقوله: (فلْيَنْظُر الإنسان إلى طعامه) ، إلى قوله: (مَتَاعاً لكم ولأنعامكم) .
ثم أتبع بعد ذكر الصاخة بقوله: (وجوه يَوْمَئِذ مسْفِرَةٌ. ضاحكةٌ مستبْشرة) .
فسورةُ النازعات على الجملة أشدّ في التخويف والترهيب، فناسبَها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة.
وقيل: إنما خُصَّت النازعات بالطامّة، لأن الطمَّ قبل الصخ، وهو الصوت
الشديد والفَزع قَبْل الصوت، فكانت هي السابقة.
وخصَّت سورة " عبس " بالصاخّة، لأنها بعده وهي اللاحقة.
(فليَنْظر الإنسانُ إلى طَعَامه) :
أمر بالاعتبار في الطعام، كيف خلقه اللَّهُ بقدرته، ويَسَّرَه برحمته، فوجب على العبد طاعته وشكره.
وتقبح معصيته والكفر به.
وقيل: فلْيَنْظر الإنسان إلى طعامه كيف يَصير، فيَزْهَد في دنْيا هذه حالها، ولا يرغب في لذّاتها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: ما طعامك.
قال: اللحم واللبن.
قال: فإلى ماذا يَصِير، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يشبع من خُبز الشعير زُهْداً فيها.
قال يحيى بن سلام: بعد أن ذكر اللَّهُ زواجرَ الكفَّار استأنف
ضَرْبَ المثل لأهل الإيمان، ليزدادوا اعتباراً بقوله: (فلينظر الإنسانُ إلى طعامه) الذي يحيا به ويأكله، من أي شيء كان "، ثم صار بعد حفظه ابن آدم، وهو الجسد.
قال الحسن: ملك يميل رقبة ابن آدم حين يجلس.
وقيل: فلينظر الإنسان إلى طعامه ويفكّر فيما هيّأه من سماءٍ وأرض، وماء وحَرّ وبرد ونحْوها، وآلة عديدة، وأسنان، منها كاسرة وطاحنة، بريق حُلو لذَوْقِه وَصَوْغه وقوة