الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت: إنما قام زيد بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم.
الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس على تقدير تسليمه مثل الحصر في الأوّلين، بل هو في قوة جملتين: إحداهما ما صُدّر به الحكم نفياً كان أو إثباتاً، وهو المنطوق.
والأخرى ما فُهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق
دون ما دل عليه من المفهوم، لأن المفهوم لا مفهوم له.
فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك - أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال تعالى:(الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) . - أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه بعده:(والزانية لا يَنْكحُهَا إلاّ زَان أو مُشْرِك) ، بياناً لما سكت عنه في الأولى، فلو قال:" بالآخرة يوقِنون " أفاد بمنطوقه إيقانهم بها، ومفهومه عند مَنْ يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصوداً بالذات.
والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حَصْر مجازي، وهو دون قولنا: يُوقِنُون بالآخرة دون غيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره لا يوقنون إلا بالآخرة.
إذا عرفت هذا فتقديم "هُمْ" أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا
التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم المعترض، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة.
ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا
يُوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهومُ عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة، مثل ما وإلا، ومثل إنما، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقاً عن غيرهم، وهذا كله على تقدير تسليم الحصر، ونحن نمنع ذلك، ونقول: إنه اختصاص، وإن بينهما فرقاً.