فإن قلت: هل يجوز لنا الاقتداء بمَدْح يوسف لنفسه؟
والجواب أنه مدح الصفتين اللتين أودعهما الله فيه، فالمدحُ إنما هو للهِ لا
لنفسه، ولولا ذلك لهلك الْخَلْق.
وقد أخبره اللَهُ أن صلاح هؤلاء العامة إنما يكون بسببه لصبره على بلائه، وكذلك أنتَ يا محمدي إذا جُهل أمرك، ورجوت صلاح إخوانك، فلا ينبغي لك السكوت، لما فيه من المصلحة، هذا إن رجوت
بذلك منفعة غيرك، ولذلك استحبَّ للعلماء لُبْس الجيّد، والتشبّه بأرباب الدنيا، لأن العامة لا تقبل كلامَ رَثِّ الهيئة، ولا تلتفت إليه، فضلاً عن سماع كلامه، ورَضي الله عن السيد الذي طُولب بولاية القضاء ففرَّ منها، فلما كان بغَدٍ أعطي أَلف دينار، فقال له الملك: بالأمس هربت منها، والآن أرشيت عليها، فقال: بالأمس كان غيري أَولى بها، والآن أعتقْتُ هذه الأمة ممن يريد أكلها، هكذا كانوا رضي الله عنهم، يراعون مصلحة الأمة رَعْياً لنبِيها، ويَرْحمونها لوصيته عليها.
فيا أبناء الطريقة ورجال الحقيقة، استَوْصوا خيراً بهذه الخليقة، وخصوصاً
بهذه الأمة، فاخفضوا لها جناحَ الذل من الرحمة ولا توحشوها ما أنستها مِنْ رَبّها ونبيها، وعاملوا الكلّ على الإطلاق بمكارم الأخلاق، صلوا مَنْ قطعكم، وأعطوا مَنْ حرمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وإن لم يكونوا لها أهلاً فكونوا أنتم لها أهلاً.
(قال إني أَنا أخوك) .
أي قال يوسف لأخيه: إني أنا أخوك واسْتَكْتَمَه الأمر.
وحبسه بتهمة السرقة، فكتب إليه يعقوب وقال لموصله: انظره، فإنْ نظر فيه وتغيَّرَ لوْنُه فاعلم أنه يوسف، ثم قال له في كتابه:
إن الله اصطفاك فاستحال عليكَ اسمُ السرقة، كذلك مَن اصطفاه اللَّهُ يستحيل أَن تنسبه إلى السرقة، فلما نظر يوسف إلى الكتاب تغيَّرَ لوْنه، فقال للرسول: مِثْلُ هذا الكتاب لا يقرَا إلا في الخلوة، ثم قرأه وبكى كما قدمنا.
وأنت يا محمديّ اصطفاكَ ربّك في الأزَل، وأخرجك في خير الملل، وبعث
إليك خاتم الأنبياء والرسل، وخاطبك بكتابه الذي ليس له مِثْل، فامتَهَنْتَه ولم
تلتفت إليه، بل وصفْتَ نَفْسك بشرِّ الخصال، وعرَّجْتَ عليه كأنكَ لم تصدِّق