وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد
على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.
ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن
ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيق
المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما.
وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقَعْ منه في القرآن شيء لما فيه من
التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع رداً كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم.
وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول.
وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) .
وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله.
وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) .
فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: (ييَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) .
وفي سورة الكهف حكى سدّ " ذو القرنين " بقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، فتخلَّص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذى