للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تجريد صحيح؛ ولكن على صاحبه إثباتُ الأسباب، فإن نفاها عن كونها أسبابًا فسدَ تجريدُه.

وقوله في الدرجة الثانية: "تجريد عين الجمع عن درك العلم". لمَّا كانت الدرجة الأولى تجريدًا عن الكسب وانتهاءً إلى عين الجمع الذي هو الغَيبة (١) بتفرد الرب بالحكم عن إثبات وسيلة أو سبب، اقتضت تجريدًا آخر أكمل من الأوَّل، وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإدراك. وهذا يقتضي أيضًا تجريدًا ثالثًا أكمل من الثاني وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث في عين الجمع قد اجتمعت همته على الحقِّ، وشُغِلَ به عن ملاحظة جمعه وذكرِه وعلمِه به. قد استغرق ذلك قلبَه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إلى تجريده؛ ولو بقيَ له التفاتٌ إليه لم يكمل تجريده.

ووراءَ (٢) هذا كلِّه تجريدٌ نسبةُ هذا التجريدِ إليه كشعرة من ظهر بعير (٣) إلى جُمْلته، وهو: تجريدُ الحبِّ والإرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريدُه عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس؛ فيتجرد الطلب والحبُّ عن كلِّ تعلُّقٍ يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا به.


(١) الأصل غير منقوط، وكذا في "ن". وفي "ف": "العنية"، ويحتمل: "الغنية"، ورجحت قراءة "ك"، وكذا في "ط".
(٢) "ك": "ووارى".
(٣) "ك": "جمل".