للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فتكون مخاصمةُ هذا العبدِ للَّه، لا لهواه وحظِّه؛ ومحاكمتُه خصمَه إلى أمر اللَّه وشرعه، لا إلى شيءٍ سواه. فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتَّبع هواه، وانتصر لنفسه. وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسه قط" (١)، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمَه إلى غيرِ اللَّه ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أُمِر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتَّى يجعل الحُكمَ للَّه وحده، كما هو كذلك في نفس الأمر.

والحكم حكمان (٢): حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني. فهذا الذي ذكره الشيخ في "منازل السائرين" وشرَحه عليه الشارحون إنَّما مراده به (٣) الحكم الكوني القدري. وحينئذٍ فلا بدَّ من تفصيل ما أجملوه من مسألة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإنَّ هذا الإطلاق غيرُ مأمور به، ولا ممكن للعبد في نفسه.

بل الأحكام ثلاثة: "حكم شرعي ديني"، فهذا حقه أن يُتلقَّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلًا البتة، وإنَّما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول. فإذا تلقَّى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادةً وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوةٌ تنازعُ مرادَ اللَّهِ من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهةٌ تُعارضُ إيمانَه


(١) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (٦١٢٦) وغيره، ومسلم في الفضائل (٢٣٢٧).
(٢) "ك، ط": "نوعان".
(٣) "به" ساقط من "ف".