للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعالي: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق/ ٣]. أي: كافيه. فجعل التوكّل سببًا للكفاية، فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: "إنَّ التوكّل عمًى عن الكفاية"؟ وهل التوكّل إلا محض العبودية التي جزاؤها الكفاية، وهي لا تحصل بدونه؟ بلى (١)، العلَّة هاهنا شهود حصولها بفعلك وتوكّلك، غيرَ ناظر إلى مسبِّب الأسباب الذي أجرى عليك هذا السببَ ليوصلك به إلى الكفاية. فأولُ الأمر وآخرُه منه، فهو المنعم بالسبب والمسبَّب جميعًا؛ ولكن لا يُوجب نظرُ العبد إلى المسبِّب المنعِم بالسبب (٢) قطعَ نظره عن السبب والقَيامِ به، بل الواجبُ القيامُ بالأمرين معًا.

الوجه الثالث: أنَّ قوله: "إنَّه رجوع إلى الأسباب" إن أراد به (٣) أنَّه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويُضعِف التوكّل، فليس كذلك؛ وظاهر أنَّ الأمر ليس كذلك. وإن أراد به أنَّه رجوع إلى سبب نصبَه اللَّه مقتضيًا للكفاية منه، ورتَّب عليه جزاءً لا يحصل بدونه، فهذا حقّ؛ ولكنَّ القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسبابًا مقتضيةً للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسبابًا مقتضيةً لما رُتِّب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التي تكون مباشرتُها نقصًا هي الأسباب التي تُضعِف التوكّل، وأمَّا أن يكون التوكّل نفسُه ناقصًا لكون التحقّق به تحقّقًا بالسبب، فقلبٌ للحقائق!


(١) كذا في الأصلِ و"ف". وفي غيرهما: "بل". وانظر نحو ذلك في ص (٥٤٦).
(٢) "والمسبّب جميعًا. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(٣) "به" ساقط من "ب".