للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن غلظ فهمُه وكثف طبعُه عن إدراك هذا فليتأمَّلْ إقدامَ القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم، ومحبتهم للقتل، وإيثارهم له على البقاء، وإيثار لوم اللائمين، وذمّ المخالفين على مدحهم وتعظيمهم. ووقوعُ هذا من البشرِ بدون أمر يذوقه قلبُه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع. والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللذّة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه، فهو (١) يلتذ به، ويتنعم به، لما يعلمُ من سرور معشوقه به:

فيا منكِرًا هذا تأخَّرْ فإنَّهُ ... حرامٌ على الخُفَّاشِ أن يُبْصِرَ الشَّمْسَا

فمن كان مرادُه وجهَ (٢) اللَّه، وحياتُه في معرفته ومحبته، ونعيمُه في التوجّه إليه وذكرِه، وطمأنينتِه به وسكونه إليه وحدَه = عرف هذا وأقرَّ به.

الأصل الثاني: أنَّ (٣) كمال النعيم في الدَّار الآخرة أيضًا به تعالى: برؤيته، وسماع كلامه، وقربه، ورضوانه؛ لا كما يزعمُ من يزعم أنه لا لذَّةَ في الآخرَة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح. بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظمُ مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.

وفي دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان


(١) "ف": "وهو"، قراءة محتملة.
(٢) "ك، ط": "وحبه" تصحيف.
(٣) "أن" ساقطة من "ط". وفي "ك": "والأصل الثاني أنّ".