للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذان قلبان متباينان غاية التباين.

وقلبٌ ثالثٌ في البرزخ ينتظر الولادة صباحًا ومساءً، قد أشرف (١) على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أشعّةَ التوحيد. تأبى غلَباتُ الحبّ والشوق إلّا تقرّبًا إلى مَن السعادةُ كلُّها بقربه، والحظُّ كل الحظ في طاعته وحبّه؛ وتأبى غلباتُ الطباع إلّا جذبَه وإيقافَه وتعويقَه، فهو بين الدّاعيَين تارةً وتارةً، قد قطع عقباتٍ وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.

والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقّق به ظاهرًا وباطنًا، وسلِم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي، وليس فيه قادح من القوادح التي تحطّه عن درجة الفقر.

واعلم أنّه يحسن إعمالُ اللسان في ذمّ الدنيا في موضعين: أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها، ولا يأمن إجابةَ الداعي، فيستحضر في نفسه (٢) قلّة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسّة شركائها (٣)، فإنّه إن تمّ عقلُه وحضر رشدُه زهِدَ فيها ولا بدّ.

فصل [تفسير الدرجة الثانية من الفقر]

وقوله: "الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل. وهو يُورث الخلاصَ من رؤية الأعمال، ويقطع شهودَ الأحوال، ويمحّص من


(١) "ط": "قد أصبح".
(٢) "ف": "فتستحضر نفسُه"، وهو خلاف الأصل.
(٣) مأخوذٌ من قول بعض الزهاد، كما سيأتي في ص (٥٤١).