للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تقرُّبًا آخر، فصار التقرُّبُ منك محفوفًا بتقرّبَين منه تعالى: تقرُّبٍ قبله، وتقرُّب بعده؛ والحبُّ منك محفوفًا بحبَّينِ منه: حبٍّ قبله، وحُبٍّ بعده؛ والذكرُ منك محفوفًا بذكرَين: ذكرٍ قبله، وذكرٍ بعده؟

فلولا سابقُ ذكره إيَّاك لم يكن من ذلك كلّه شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرّةٌ ممَّا وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبَّته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلُّها آثارُ ذكره لك.

ثمَّ إنَّه سبحانه ذَكَرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عينٍ ونفَسٍ نعمٌ عديدةٌ ذكَرك بها قبلَ وجودك، وتعرَّف بها إليك، وتحبَّب بها إليك، مع غناه التامّ عنك وعن كل شيء. وإنَّما ذلك مجرَّد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجوادُ (١) المحسنُ لذاته، لا لمعاوضةٍ، ولا لطلب جزاءٍ منك، ولا لحاجةٍ دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟ فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنَّه ذكرك بها، فَلْتعظُمْ عندك لِذكره لك بها، فإنَّه (٢) ما حقَّرك مَن ذكَرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبَّب إليك بنعمته؛ هذا كلّه مع غناه عنك.

فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربِّه له، ووصل شاهدُه إلى قلبه شَغَلَه ذلك عمَّا سواه، وحصل لقلبه به غنًى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذُه وسيّدُه يَذكُره ولا ينساه، فهو يحصل له -بشعوره بذكر أستاذه له- غنى زائد على إنعام سيّده عليه وعطاياه السنية له؛ فهذا هو غني ذكر اللَّه للعبد.


(١) زاد هنا في "ك، ط": "المفضل".
(٢) "ط": "فإنَّها".