للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورسمُه عدمُ الأسباب كلها" (١).

قلتُ: يريد عدَمَها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها، بل تصير عدمًا بالنسبة إلى سبق مسبِّبها بالأوَّلية، وتفرده بالأزلية.

* وسُئِلَ محمد بن عبد اللَّه الفرغاني (٢) عن الافتقار إلى اللَّه تعالى والاستغناء به أيهما أكمل (٣)؟ فقال: "إذا صحَّ الافتقار إلى اللَّه تعالى صحَّ الاستغناء به، واذا صحَّ الاستغناءُ به صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكملُ لأنَّه لا يتمّ أحدهما إلا بالآخر" (٤).

قلتُ: الاستغناء باللَّه هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأنَّ كمالَ الغنى به هو كمالُ عبوديته، وحقيقةُ العبوديةِ كمالُ الافتقار إليه من كلِّ وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به. فليس هنا شيئان يُطلَب تفضيلُ أحدهما على الآخر، وإنَّما يُتوهَّم كونُهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقَر إليه. فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يُسمَّى "غنًى" بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية، و"فقرًا" بالنسبة إلى قَصْر همَّته وجمعها على اللَّه عزَّ وجلَّ. فهي همَّة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير "غنى"، وسفرها إلى اللَّه "فقر". فإذا وصلتْ إليه استغنت به لكمال (٥) فقرها إليه، إذ يصير لها بعد الوصول


= طبقات الصوفية (١٠٧)، سير أعلام النبلاء (١٣/ ١٥).
(١) الرسالة القشيرية (٢٧٢).
(٢) نزل بغداد، ولزم الجنيد واشتهر بصحبته، وروى عنه كلامه. الأنساب (٤/ ٣٦٨).
(٣) "أيهما أكمل" ساقط من "ك، ط".
(٤) نقله القشيري (٢٧٣) من كلام الجنيد.
(٥) "ك، ط": "بكمال".