من حين استقرت قدمه في الدنيا فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له. والناس في سفرهم هذا إما مسافرون إلى دار الشقاء وإما إلى دار السلام. والسائرون إلى دار السلام ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار ومقربون.
ثم عقد فصلًا في مسألة أن أصحاب اليمين هل هم الأصناف الثلاثة (المقتصدون والأبرار والمقربون) أو يدخل فيهم الظالمون لأنفسهم أيضًا. وفصّل القول فيها على طريقته من ذكر خلاف العلماء وأدلتهم وردودهم في نحو ٣٢ صفحة، ثم رجع فقال:"والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول. . . "(٤٤١).
ثم وصف حال الأصناف المذكورة، وأفضلها وأعلاها: السابقون المقربون. وقد تواضع ابن القيم فاعتذر واستغفر قبل وصف حالهم قائلًا:"وأما السابقون المقربون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة"(٤٤٦). وبعد ذكر هذه الفوائد شرع في وصف حالهم من الجهتين: جهة الإرادة والعمل، وجهة العلم والمعرفة. فلما وصف حالهم مع الأقدار التي تصيبهم بغير اختيارهم بأنهم يقابلونها بمقتضاها من العبودية ذكر أنهم فيها على ثلاث مراتب: إحداها الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. والمرتبة الثانية شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها، ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، والمرتبتان لأهل هذا الشأن.