للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدنيا (١) ومطالبها، وخمدت من نفسه نيرانُ الشهوات، وأخبتَ قلبُه إلى ربِّه تعالى (٢)، وعكفت همته على اللَّه وعلى محبته وإيثار مرضاته. واستحدث (٣) همَّةً أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادةً أخرى تكون نسبةُ قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه، فيولد قلبُه ولادةً حقيقية، كما ولد جسمه حقيقة. وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدارِ. وهذا معنى ما يذكر عن المسيح -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يا بني إسرائيل، إنَّكم لن تلجوا ملكوتَ السماء حتَّى تولدوا مرَّتين" (٤).

ولمَّا كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها -فضلًا عن أن يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أم (٥) كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همَّة ولا عزيمة، إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدّقه؟ ولكن إذا كُشِفَ حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنَّه لم يولد قلبُه بعد.

والمقصود أنَّ صدق التأهّب للقاءِ اللَّهِ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى اللَّه ومنازل


(١) "ك، ط": "الدنيا وما فيها ومطالبها".
(٢) "ك، ط": "إلى اللَّه".
(٣) "ك، ط": "واستحدثت".
(٤) تقدَّم في ص (٢٩).
(٥) "ط": "أو".