للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والسرّ فيه -واللَّه أعلم- أنَّ الإيثار إنَّما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثِر والمؤثَر، بل لا يسع إلا أحدَهما. وأمَّا أعمال البرّ والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلّفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووَسِعَتْهم كلَّهم. وإن قُدِّر التزاحمُ في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع، بحيث إذا فعله واحد فات على غيره؛ فإنَّ في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غير حديث. فإذا قُدِّرَ فوتُ مباشرته له، فلا يفوت عليه عزمُه ونيَّتُه لفعله.

وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوضٌ (١) منه: إمَّا مساوٍ له، وإمَّا أزيد (٢)، وإمَّا دونه. فمتى أتى بالعوض، وعلِم اللَّه من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت، أعطاه (٣) ثوابَه وثوابَ ما تعوّض به عنه؛ فجمع له الأمرين. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.

وأيضًا فإنَّ المقصود رغبة العبد في التقرّب إلى اللَّه، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابّه؛ والإيثار بهذا التقرّب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه. وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه، إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختصّ به أحدهما فات الآخر، فندب اللَّه سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوَّةً وصبرًا على


(١) في الأصل: "عوضًا"، سهو. وكذا في النسخ الأخرى.
(٢) "ب": "زائد عليه".
(٣) "ك، ط": "أعطاه اللَّه".