للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقامه في الأرض لمَّا تجلَّى ربُّه للجبل، والنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قطع تلك المسافات، وخرق تلك الحجب، ورأى ما رأى، وما زاغ بصره ولا طغى (١)، ولا اضطرب فؤاده ولا صعق، فصلوات اللَّه وسلامه عليه. ولا ريب أنَّ الوراثة المحمّدية أكمل من الوراثة الموسويّة.

وتأمَّل شأن النسوة اللاتي رأين يوسف، كيف أدهشهنَّ حسنُه وتعلّق (٢) قلوبهنَّ به، وأفناهنَّ عن أنفسهنَّ حتَّى قطَّعن أيديهنَّ. وامرأةُ العزيز أكملُ حبًّا منهنَّ له وأشدّ، ولم يعرض لها ذلك، مع أنَّ حبها أقوى وأتمّ؛ لأنَّ حبّها كان مع البقاءِ، وحبّهن كان مع الفناءِ. فالنسوة غيَّبهنّ حسنُه وحبُّه (٣) عن أنفسهنَّ، فبلغن من تقطيع أيديهنَّ ما بلغن؛ وامرأة العزيز لم يغيّبها حبُّها له (٤) عن نفسها، بل كانت حاضرةَ القلب متمكّنةً في حبّها، فحالها حال الأقوياء من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ.

ومما يدلّ على أنَّ حال البقاءِ في الحبّ أكمل من حال الفناء أنَّ الفناءَ إنَّما يعرض لضعف النفس عن حمل (٥) وارد المحبة، فتمتلئ به، وتضعف عن حمله، فيفنيها ويغيّبها عن تمييزها وشهودها، فيورثها الحيرة والسكوت. وأمَّا حال البقاء فيدلّ على ثبات النفس وتمكّنها، وأنَّها حملت من الحبّ ما لم يطلق حملَه صاحبُ الفناءِ، فتصرَّفتْ في


(١) "ب, ك، ط": "ما طغى".
(٢) "ب, ط": "تعلَّقت".
(٣) "ف": "حسن وجهه"، خلاف الأصل.
(٤) "ط": "حبه لها"، غلط.
(٥) "حمل" ساقط من "ك، ط".