والتمييز عند اختلاط الأحكام وتداخلها بين رتب المأمورات والمنهيات، وإدراك مراتب الأدلة والأحكام، ومعرفة مواضع الإجماع والاتفاق، ومواقع السعة والاختلاف، وأسباب الترجيح والمرجحات، ونحو ذلك مما تكمل به عدة فقيه يدرس نوازل العصر.
وبمثل هذا المسلك الرشيد تتحقق مصالح العباد ويتبصر الفقيه بما به تحقق الرشاد في الفتاوى، وتظهر صحة قول الإمام الشافعي وأرجحيته حين قال:"وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلومًا إلا عن الله نصًّا أو دلالة من الله؛ فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس تنزل بأحدٍ نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصًّا أو جملة"(١).
وليس يخفى أنه ما من عالم مجتهد قد حفظت أقواله، وجمعت مصنفاته إلَّا وقد بث في ثنايا ما ألف وصنف وما أفتى فيه من مسائل ونوازل أصولًا وضوابط في سائر أبواب الفقه والعلم، ومنهم من عني بالتصنيف في القواعد الفقهية والأصولية خاصة، ومنهم من تناول القواعد المقاصدية، وقد اشتهر جمع من العلماء بالعناية بهذا المنحى في التأليف والتصنيف، وليس في الأقدمين كالشافعي والعز ابن عبد السلام وابن تيمية والشاطبي وابن القيم في هذا المجال أحد!
ثم إن المحدثين والمعاصرين قد أدلوا في هذا المجال بدلاء متفاوتة، وإن كان حظ معظمهم في الجمع والترتيب والتنضيد والتنسيق أوفر من حظهم في التأصيل والتقعيد.
ولا إشكال في هذا فإن من المتفقهين غير فقهاء وهم الرواة، ومنهم حاملو الفقه الفقهاء، ومن الصنف الأخير صفوة هم أهل الاستنباط والتقعيد والتأصيل، وأولئك ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين!