مثل الحجر على المدين، حيث كان له أولًا حقُّ التصرف المطلق في أمواله، سواء كانت هبة أو وقفًا أو تبرعًا، ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمته وتبقى أعيان أمواله حرة، وهذا بمقتضى القواعد القياسية التي جرى بها العمل في الزمن الأول، ثم لما فسدت ذمم الناس وكثرت حيلهم وبدأ كثير من المدينين يعمدون إلى تهريب أموالهم عن دائنيهم بوقفها أو إعطائها لمن يثقون بهم على أساس الهبة، لأجل ذلك أفتى المتأخرون من الفقهاء بعدم نفاذ تلك التصرفات من قبل المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الدين؛ لأنه ليس من حقه أن يضر غيره (١).
ومثله أيضًا منع النساء من المساجد، حيث كان الأصل في ذهابهن الإباحة، ولما نظر المجتهدون إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - رأوا أن العلة هي المحافظة على مصلحة المرأة في سعيها إلى المسجد وحضورها صلاة الجماعة وانتفاعها بما تسمع من قرآن أو خطبة، ولم يكن في خروجها في عهده - صلى الله عليه وسلم - مفسدة تستدعي المنع، فلما جاء عهد كثر فيه تعرض السفلة من الرجال للنساء، وحدثت وقائع تدل على أن سلطان الدين أصبح ضعيف الأثر في نفوس هؤلاء وأولئك، فقد أخذت واقعة خروج المرأة إلى المسجد حالًا غير الحال التي كانت عليها في زمن النبوة، وانضم إلى مصلحة خروجها مفسدة، وللمجتهد أن ينظر في هذه المفسدة ويقيسها بالمصلحة ليعلم أيهما أرجح وزنًا، ثم يرجع بالواقعة إلى أصول الشريعة ويستنبط لها حكمًا يراعي فيه حالتها الطارئة، ويصل إلى قول أم
(١) المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، (٢/ ٩٤٥)، أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ط ٢، (ص ٤٥٩ - ٤٦١).