التي يتعذر فهمها على المستفتي، وأن تكون واضحة الدلالة غيرَ موهمة.
هذا وإن بعض المتصدرين للفتيا يعمد إلى حيلة لا تخفى؛ إذ يضمن فتواه عدة أقوال ليقحم فيها آراء معينة يريد أن ينشرها بين الناس، ولا يسلك جادة أهل العلم بتزييفها وبيان تهافتها، بل يترك الأقوال مطلقة مرسلة بدون ترجيح، وقد يصرح للسائل بأن له أن يختار ما شاء من الأقوال؛ إذ من ابتلي بشيء مما اختلف فيه فليقلد من أباح! أو الخلاف رحمة! ولا إنكار في مسائل الخلاف! وهذا إنما يزين باطله بهذه القواعد، ويتعمد الغموض في الفتوى، وعدم الوضوح فيها؛ ليسهل عليه التخلص من تتبع الناصحين ونقدهم، والله عند لسان كل قائل وقلبه!
[ثالث عشر: تغليب التيسير على التعسير، والتبشير على التنفير]
إن التكليف في شريعة الإسلام بحسب الطاقة والوسع، وإن طاقات الناس تتفاوت، وظروفهم تختلف؛ ولهذا راعى الشرع الأعذار والضرورات، وجعل لها أحكامها الخاصة، حتى إنه ليبيح بها المحظورات، ويُسقط الواجبات (١).
وشريعتنا تتميز بالوسطية واليسر؛ ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل -ولا سيما نوازل الأقليات المسلمة- من أهل الفُتيا والاجتهاد أن يكون على الوسط المعتدل بين طرفي التشدد والانحلال، كما قال الشاطبي -رحمه الله-: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم إلى مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرَّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع؛ ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة
(١) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط ٣، ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م، (ص ١٨٩).