للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضًا؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدَّى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة" (١).

لهذا ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي، أو واقع النازلة، فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد، ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفُتيا.

فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاتجاه الشرعي الصحيح، وهو الذي يدعو إليه أئمةُ العلم المصلحون (٢).

وهذا الرأي يؤكده الإمام الشاطبي -وغيره- حيث يقول في فصل "الوسطية في الفتوى": "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفُتيا بإطلاق مضادًّا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضادٌّ له أيضًا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأمُّ الكتاب، ومن تأمَّل موارد الأحكام بالاستقراء التامِّ عَرف ذلك، وأكثر مَن هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود من الشريعة، وقد تقدَّم أن


(١) الموافقات، للشاطبي، (٤/ ٢٥٨ - ٢٥٩) باختصار.
(٢) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، (ص ٢٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>