للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهلية القضاء والحكم عن غير المسلم أمرٌ لا خلاف فيه، فيما أعلم.

ومع ذلك فإن أوضاع المسلمين في ديار غير المسلمين -حيث لا يُسْمَحُ بإنشاءِ محاكمَ إسلاميةٍ يتحاكمون أمامها، وتخضع منازعتهم بالكلية لقوانين قضاة البلد الذي يقيمون به- تجعل حالهم مندرجًا ضمن الضرورات التي لها أحكامها، والتي تتخذ من المصالح معيارًا للحكم، والإمكان والاستطاعة أساسًا للتكليف؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] " (١).

[ضوابط التحاكم إلى غير الشريعة]

فإذا لم يتيسر ذلك؛ لعدم نزول الخصم على حكم حَمَلَةِ الشريعةِ، وكان لا يردعه إلا سلطانٌ ذُو شوكةٍ، فإن التحاكم إلى القضاء الوضعي في هذه الحالة لاستخلاص حقٍّ أو دَفْعِ مظلمةٍ رخصةٌ، لا تثريبَ على من يلجأ إليها عندما تتعين سبيلًا إلى تحصيل الحق؛ لأن النصوص الواردة في نفاق وكفر من أعرض عن التحاكم إلى الشرع إنما كانت في واقعٍ تهيَّأتْ فيه أسبابُ التحاكم إلى الشرع المطهر، وأعرض فيه من أعرض عن ذلك طائعًا مختارًا؛ لتفضيله التحاكم إلى القانون الوضعي على التحاكم إلى القانون الشرعي.

دلَّ على ذلك الجوازِ قولُه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (٢)، وحديث: كنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم" (٣).


(١) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص ٢٧٦).
(٢) سبق تخريجه.
(٣) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس (٧٢٠٢) ومسلم، كتاب الإمارة، باب: البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع (١٨٦٧) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

<<  <  ج: ص:  >  >>