للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد قال الإمام أحمد: "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم" (١).

وليت هؤلاء حين شددوا في رأي أحالوا على غيرهم؛ فإنه يجوز للمفتي أن يحيل من استفتاه على غيره ممن يخالفه القول في أمر اجتهادي لا نصَّ فيه ولا إجماع، ولو كان شأنه خطيرًا؛ لأن قصارى ما عند هذا المفتي هو ما انتهى إليه رأيه، ولعله يتهم رأيه إن كان منصفًا، ولعل ما عند غيره من الرأي أولى وأفضل مما عنده!

وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق فقال: "إذا فعله يحنث". فقال له السائل: إن أفتاني أجد بأنه لا يحنث -يعني: يصح؟ - فقال: "نعم، تعرف حلقة المدنيين؟ "؛ فَدَلَّهُ على مفتٍ يخالفه في اجتهاده؛ لما في ذلك من السعة على المستفتي (٢).

وبالجملة فإن هؤلاء الصنف يغلب عليهم التشديد، ويتجافون عن التيسير، ويغلب عليهم التعصب لرأي في أمر اجتهادي، أو تشدد في أمر خلافي، وقد قال سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" (٣).

وأما الصنف الثاني فهم أصحاب المذهبية المفرطة، الذين يعتقدون أنه يجب على كل أحد أن ينتمي إلى أحد المذاهب الأربعة المتبوعة، ويُلزمون علماء كل مذهب بالاجتهاد في إطاره فحسب؛ تخريجًا على قول الإمام أو الأصحاب، فإذا سُئلوا فإنهم لا يُفتُون إلا بنص الإمام أو تخريجًا أو إلحاقًا، فإن لم يجدوا كان المنع والحظر إليهم أقربَ من الإباحة والحِلِّ.

وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وإذا نزلت بالمسلم نازلة يَستفتي من اعتقد أنه يُفتيه


(١) الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين محمد بن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط ٣، ١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م، (١/ ١٨٩).
(٢) كشاف القناع، للبهوتي، (٦/ ٣٠٠)، البحر المحيط، للزركشي، (٦/ ٣١٩).
(٣) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (٢/ ٧٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>