للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ من أعظم المزالق عند بعض المفتين ضعف الصلة بالله تعالى، وقلة اللَّجَأ إليه، والاعتماد على ما أوتيه المرء من ذكاء؛ ولذا يكثر من هؤلاء اتباع الهوى، وإرضاء الناس رعاة كانوا أو رعية، وقد حذر الله تعالى من ذلك، فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: ٤٩].

إنَّ هذا الصنف من المفتين عزيز ليس في زماننا فحسب، بل وفيما مضى من الأزمنة، كما قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما من الناس أعزُّ من فقيه ورع" (١).

إذ العلم الحقيقي هو ما أورث الخشية من الله، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]. وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهِم الصواب، ومعلم الخير وهادي القلوب؛ أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدلَّه على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر مَنْ أَملَ فضلَ ربه أن لا يحرمه إيَّاه، فإذا وجد في قلبه هذه الهمَّة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه، ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النَّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله؛ فإنَّ العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه إذا أعيته المسائل استصعبت عليه فرَّ منها إلى التوبة


(١) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (٢/ ٣٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>