للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا لا ينبغي أن يقول فيما أدَّاه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: هذا حلال وهذا حرام.

ولهذا كان السلف يتورعون عن إطلاق الحرام على كثير من الأمور التي يرون تحريمها إذا لم تثبت بنص قاطع، وإنما يقولون: نكره كذا، لا ينبغي كذا، ونحو هذا، حتى لا يقع الواحد منهم فيما حذر الله منه وزجر عنه بقوله سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: ١١٦].

قال الإمام مالك -رحمه الله-: "لم يكن من أمر الناس، ولا مَنْ مضى مِنْ سلفنا، ولا أدركنا أحدًا ممن يُقتدَى به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، إنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا، ينبغي هذا، ولا نرى هذا" (١).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحلَّ كذا، أو حرَّمه، أو أوجبه، أو كرهه، إلَّا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نصَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على إباحته، أو تحريمه، أو إيجابه، أو كراهته، وأمَّا ما وجده في كتابه الذي تلقَّاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهدَ على الله ورسوله به، ويغرَّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.

قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا، أو حرَّم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أُحِلَّ كذا ولم أُحَرِّمْهُ. . . وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم فَجَرَتْ حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله


= وأبو جعفر أحمد ابن محمد بن سلامة الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٧ م، (٩/ ٢١٤).
(١) إعلام الموقعين، لابن القيم، (١/ ٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>