المذكورة ينطوي على تألم شديد لما آل إليه أمر المسلمين في عهده من إعراض عن سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، واشتغال بأفكار ومذاهب وبدع وعادات ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فقال:"وأمّا الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّة سفت عليها السوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها. فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش ممّا [به]، يستأنسون، مستأنس ممّا به يستوحشون. . . والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد"(٢١ - ٢٢).
ثمّ بين حدّ هذه الهجرة بقوله:"فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)}. فكل مسألة طلعت عليها شمس الرسالة وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلّا فعدّه من أهل الريب والشبهات. فهذا هو حدّ هذه الهجرة"(٢٣ - ٢٤).
فهذه الهجرة شاملة محيطة بحياة المؤمن كلها. فلا تخصّ جانبًا منها دون جانب، ولا يحتاج إليها في وقت دون وقت. وليست أهميتها في أحكام الفقه أكثر منها في مسائل الاعتقاد ومنازل السلوك ومقامات الإحسان. بل لها أهمية خاصة في وادي السلوك، فإن المقرر عند كثير من أصحابه أنّ الشرع فيه معزول، والعقل فيه معقول، والحكم فيه